التدوين التاريخي في موريتانيا

arton19357يناقش الكاتب منّي بونعامه في كتابه “التدوين التاريخي في موريتانيا” الصادر حديثاً عن قسم الدراسات والنشر في دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة نشأة التدوين التاريخي في موريتانيا ومساره وأطواره التي مر بها ابتداءً من القرن الثامن عشر الميلادي وحتى القرن العشرين .
وينطلق المؤلف من إشكالية الوعي التاريخي التي أسهمت في تأخير كتابة التاريخ وتدوين أحداثه إلى أزمة الخطاب التاريخي التي كان من أبرز ملامحها عزوف مؤرخي القرن العشرين عن الاعتناء بتدوين التاريخ المحلي وانصراف همتهم إلى تدوين أحداث أخرى تعتبر، أحياناً، ثانوية في سياقها .
يتألف الكتاب من مدخل تاريخي وأربعة فصول، يتناول الأول نشأة التدوين التاريخي في موريتانيا خلال القرن الثاني عشر الهجري وما يعقبه، واستهل الكاتب بالحديث عن تحقيب التاريخ الموريتاني ومصادره، مستعرضاً البواكير الأولى لنشأة حركة التدوين في موريتانيا خلال القرن العاشر الهجري، السادس عشر الميلادي، ثم بداية التدوين التاريخي ودوافعه، ومظاهر تطوره وأقدم الأحداث المدوّنة وعلاقتها بتاريخ البلاد وأنواع التدوين وخصائصه وسماته .
وتحدث في الفصل الثاني عن كتب التواريخ بوصفها باكورة التدوين التاريخي في موريتانيا، وعرّف بها واستعرض أصنافها مبرزاً أهميتها التاريخية، من خلال ما اشتملت عليه من مواضيع متنوعة، ثم المصادر التي اعتمد عليها كاتبوها .
وتطرق في الفصل الثالث لمؤرخي القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين ونصوصهم، منتخباً أبرز الأسماء وليس كلها التي اشتغل أصحابها على كتابة التاريخ، وعقَد تراجم لهم في معرفة تكوينهم المعرفي وفهم نتاجهم التاريخي .
أما الفصل الرابع فقد تحدث فيه الكاتب عن التدوين التاريخي خلال القرن الرابع عشر الهجري، العشرين الميلادي، مبرزاً ملامح الشبه والاختلاف ومظاهر التطور الذي طرأ على التدوين خلال هذه المرحلة التي امتازت بقلة النتاج التاريخي عموماً، شكلت أزمة للخطاب التاريخي الموريتاني، وهي أزمة تجلت مظاهرها في البداية في العزوف عن كتابة التاريخ المحلي وعدم القدرة على رصد التحولات التي عرفتها البلاد بالتساوق مع خضوعها للاستعمار الفرنسي، متتبعاً مسار الأزمة ومظاهرها وانفراجها مع وضع أول موسوعة تاريخية موريتانية تنشد الشمول والاستقصاء .
وخلص المؤلف إلى أن بداية التدوين التاريخي في موريتانيا قد ارتبطت بمسألة الهوية والتعريف إلى الذات سواء رداً على قلق داخلي، أو صداً لتوهّم وتشوّه خارجي، فكان خطاب الأنساب لذلك موجّهاً للمنافحة عن تلك الهوية، وانتمائها العربي، والارتفاع بأنسابها إلى مشجرات أنسابية شريفية وأنصارية.
وقد شكّل ذلك القلق الجذوة التي أذكت بواكير الوعي التاريخي لدى نخب البلاد العالمة، وعبّرت عن منعرج حاسم في تطوّر وعيهم بالتاريخ وخطابه الذي اتخذوه مطية للتعبير عن هويتهم وافتخارهم بأنسابهم العربية وهذا ما يفصح عنه شاعر القوم المختار بن بونه الجكني المتوفى (1220ه) مفاخراً بأنسابهم حيث يقول:
ونحن ركب من الأشراف منتظم أجلّ ذا العصر قدراً دون أدنانا
قد اتّخذنا ظهور العيس مدرسةً بها نبيّن دين الله تبيانا
وقد تركّز التدوين التاريخي في البلاد في البداية على النمط الحولي والمناقبي والأنسابي والتراجمي، في حين ظلت بعض المواضيع الأخرى خلواً من التدوين كالتاريخ السياسي مثلاً، وإن وجدت نتف من أحداثه ووقائعه مبعثرة في تلك الأنماط، لكنها لم تتجاوز العرض الحولي المختصر دون التفصيل والإسهاب، ولم يظهر هذا النوع من التدوين بشكل مستقل إلا خلال القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي، كما ظل التدوين خلال القرون الأولى مرتبطاً بالأعيان والمشاهير والوقائع المشهورة، ولم يلامس حياة العامة إلا من خلال ظلال عابرة، لذلك تعتبر المجامع الإفتائية والرسائل وغيرها من المصادر غير القصدية لتاريخ البلاد، أهم مظاهر التاريخ الصامت، حيث تكشف عما كانت عليه أوضاعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، من خلال النوازل التي كانت تجدّ بين الفينة والأخرى، ورسائل النصح وغيرها.
وقد مرّ التدوين التاريخي في موريتانيا الأمس خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين بمراحل متمايزة اتّسمت كل منها بميّزات فارقة يمكن إجمالها في ثلاث مراحل: المرحلة الأولى، وهي مرحلة تميز التدوين التاريخي فيها بندرة الإنتاج وشحّ المعلومات التي ظلت مقتصرة على رصد بعض الوقائع والأحداث والوفيات والتراجم والأنساب والمناقب، لكنها بقيت في عمومها قليلة وشحيحة . كما عرفت هذه المرحلة ظهور أول معجم تراجمي موسوعي (فتح الشكور) ضمّ مادةً غزيرة عزّ نظيرها، ولا يزال إلى الآن فريداً في بابه . المرحلة ثانية، وهي من أزهى مراحل التدوين التاريخي، تميزت بغزارة الإنتاج التاريخي ووضوح المادة المدوّنة، وهي المرحلة التي دبّجت فيها أبرز النصوص التاريخية الموريتانية (كتب الحوليات، الأنساب، التراجم . . إلخ) .
كما ظهر فيها جيل من المؤرخين الموسوعيين . المرحلة الثالثة: وهي تتّسم بتنوع المادة التاريخية وشموليتها، بحيث لم تعد محصورة في المواضيع التقليدية الصرفة، وبدأت تهتم بمواضيع جديدة لم تكن مطروقة في المدوّنات القديمة . وتمثّل هذه المرحلة أوج التدوين التاريخي من حيث استيعاب المضمون العام، وعمق الوعي التاريخي، ولكنها أقل نتاجاً بكثير من المرحلة السابقة، كما تراجعت خلالها إلى حد كبير الكتابات الأنسابية والتراجمية .
المصدر: “الخليج”

شاهد أيضاً

صدور أول مجموعة قصصية للكاتبة نزيهة اليدالي حسن

ازدانت الساحة الثقافية في موريتانيا بمؤلف جديد صادر عن “منشورات الشاعرة خديجة عبد الحي”، بعنوات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *