لا خلاف على النية السليمة والسريرة الطلية لهذا الشيخ العربي الأسمر صاحب المبادرة، الذي بدأت السنين تسرق منه بعض عنفوانه، و إن عوضته عنه مسحة احترام وألق من وقار، وأورثته رؤية سياسية وحنكة مهنية لا جدال فيها.
لذا، كان هذا الشيخ الأجدر والأسرع إلى تهدئة التوترات الاجتماعية؛ لأنه كان مسموع الكلمة والمطاع في التوجيه . غيرأن تعقيدات المشهد السياسي الموريتاني اليوم ليست وليدة الأزمة السياسية التي تفجرت إثر اطاحة نظام سيدي ولد الشيخ عبد، كما يروق لبعضهم الانطلاق منها؛ بل إن بعضا من استحكامات هذا المشهد تعود إلى أبعد من ذلك. فأغلب رموز الطبقة السياسية التي ما تزال تدير شؤون البلاد، علنا أو في الظل، هم من الشيوخ المسنين، المثقلين برواسب الماضي. ومعنى هذا الكلام أن شيئا مما يستعصي علينا حله في واقعنا يعود إلى التوترات والسجالات وحتى الصراعات التي حدثت قبل عقود، وما تزال تحتفظ بتأثيرها على علاقات شيوخ السياسة، بعضهم بعضا. فقد يحدث أن نبحث عن حل لمشكل ينشب بين هؤلاء في وضعنا الراهن، والحال أن أصل المشكل يعود مثلا لصراع الكادحين مع رجالات نظام المرحوم ولد داداه. هذا الواقع المركب بين رواسب الماضي السحيق ومستجدات الأفعال السياسية الممزوجة بتبعات سياق وطني يتسم بتفجر المكبوتات الاجتماعية – على مستوى كل مكونة – المحمولة على بساط “ريح” وسائط الإعلام المنفلتة، هو من أهم مهددات مبادرة مسعود ولد بلخير. ينضاف إلى هذا التعقيد النفسي والتعقد الاجتماعي تعقيد ثان لا يقل تأثيرا ويتمثل في تغييب الأجيال الصاعدة من الشباب التي تتطلع إلى لعب دورها كاملا في إدارة شؤون البلاد، بعيدا عن منطق الوصاية وكهوف الأبوة السياسية، التي اجتاحتها عواصف العاتية، وبينت وجاهة أن لكل زمان رجاله.
فهذا التغييب المنهجي لقوى الشباب الفاعلة في الأحزاب السياسية الوطنية جعلها، دون استثناء، ملغومة ببذور انشقاقات مؤجلة لحين الانتخابات القادمة؛ وإن كان بعضها يغطي على غليانه الداخلي بقوة الكارريزما الشخصية لبعض رموزه، وبعضها الآخر يغطي على ضعفه وهشاشة بنيانه بتوخي الحذر واحتساب كل حركة مخافة أن يغادر المشهد مبكرا. وما أكثر ما لعبت الحاشية الخدومة للقيادات الحزبية العليا – والتي يتعذر تحديد الجهة الحقيقية لولائها – دورا سلبيا من خلال قطع الصلة بين هذه القيادات وفاعلياتها الميدانية. وعلى ذلك، فإن الانتخابات – التي تدخل كأحد أهم الرهانات في مبادرة مسعود – ليست مغرية هذه الأيام لأحد، برغم التعجل الظاهر للسياسيين إليها.
كما أن التركيبة الاجتماعية التقليدية مفككة والبنيات الحزبية مهلهلة، والمال السياسي – الذي ظل ضمانة التفوق الانتخابي لمجموعة من الأحزاب والقوى والشخصيات – بات منحسرا في حجمه، بعد رحيل بعض القادة، وبفعل ما يسميه بعضهم بـ “شح” الرئيس ولد عبد العزيز، فضلا عن تمرد الشباب ورفضه البقاء محصورا في الدور التعبوي والتنشيطي لشيوخ السياسة.
ولهذه الاعتبارات، ولغيرها في سياقها، تصطدم مبادرة مسعود ولد بلخير، على نحو خفي، بعراقيل ينصبها قسم من السياسيين في جهة الأغلبية وجهة المعارضة، على حد سواء. فالكل يتوجس خيفة من الانتخابات ومن نتائجها المفاجئة؛ وهو لذلك لا يريد أن تتجاوز هذه المبادرة حدود الرذاذ المنعش والضروري للساحة السياسية، كما تعكسه بعض مفردات الخطاب في الأغلبية، أو لا يريد لها أن تتخطى عتبة الشَّرَكْ المنصوب للرئيس ولد عبد العزيز، عندما “يجرؤ” على رفضها، فيسهل على أطراف في المعارضة “اصطياد” ولد بلخير في سورة انفعاله ضد الرئيس. أي أن الفرقاء يستغلون صعوبة التضاريس التي تجتازها المبادرة لدفع الأطراف المنخرطة فيها إلى خوض المعركة بالوكالة عنهم جميعا. وبالنتيجة، تتحمل هذه الأطراف أثقال أزمة تعددت مساراتها ومرجعياتها من خلال الإفشال المزدوج “الناعم”. وهذا ما تقتضيه معركة الأنانيات الضيقة، التي دأبت، ولعقود من الزمن، على خلق مشهد سياسي مشوه ومزمن.
لقد كان الرئيس مسعود ذكيا وموفقا حينما حول هذه المبادرة من بعدها الشخصي، إلى البعد السياسي الوطني، بحيث أصبحت “مبادرة موريتانيا أولا”، وكأنه، بحنكته السياسية، استبق إمكانية أن تعمل أطراف على تخريبها للحؤول دون اكتسابه، “هو” حجما سياسيا أكبر منه بفضل المبادرة، أو تمتيعه بسمعة سياسية منافسة في الرئاسيات القادمة، في إطار صراعات “المشيخات السياسية”. وحسنا فعلت القوى المناصرة للمبادرة بتعبئتها للجماهير حول شعاراتها؛ الأمر الذي عمق مصداقية بعدها الوطني والشعبي، وصعد من حرارة إيقاعها السياسي، ووسع مداها لتشمل فضاءات اجتماعية متعددة.
من هنا، يكتسي المهرجان الحاشد الذي نظمته القوى المنخرطة في “موريتانيا أولا” أهمية كبرى لأنه سيضطر الأطراف الحرونة خلف الصيغ الغامضة والموقف الملتبس إلى الوضوح في قبولها للمبادرة أو رفضها. ولكن الأهم من ذلك، هو خروج أصحاب المبادرة من دائرة الحياد السلبي بين قوى التجاذب، ومن غرفة الإنصات للإطراف إلى تقديم مقترحات عملية نهائية.
فالاشتباك بالكلمات ليس نافعا، وهو يصنع من الأزمات أكثر مما يحقق من المكاسب في بلد يعتبر ساحة رماية مفتوحة على كل الآفات الاجتماعية والتهديدات الخارجية؛ وصراعاته الداخلية تزداد تعمقا، وقيمه تنهار أفقيا وعموديا، وأمنه ينفلش يوميا.
وهكذا ليس أمامنا إلا الالتفاف حول هذه المبادرة ذات الهوية الوطنية الناصعة، لننهض بوطننا من حطام هذا المشهد البائس، ولنبني منظومة سياسية مستقرة تستوعب الجميع، نظاما ومعارضة، ولنوفر المناخ النقي للمصالحة الوطنية، خصوصا أن الساحة الشعبية مواتية لذلك بما فيه الكفاية، وهتافات الجماهير صدحت به في مهرجان “لم الشمل”.
وأملنا أن يرضي الشعب الموريتاني، وقواه الشبابية تحديدا، كبرياء هذه المبادرة الوطنية.. وأن نعي ،على نحو قويم، حجم الرهانات، حتى لا تكون المبادرة حلما عابرا.
محمد الكوري ولد العربي
إطار في حزب الصواب