30 أبريل 2024 , 19:55

ثورة الخشب (تورجه)

arton13967بادئ ذي بدء أريد أن أقص قصة سمعتها منذ زمن، لأنها تذكر بالوضعية السياسية الراهنة، ربما كانت هذه القصة أسطورية، لكن المهم هو دلالتها.

تقول القصة إنه كانت هناك قبيلتان من قبائل البيضان في الترارزة تعيشان متجاورتين في انسجام، تتقاسمان نفس المرعى، وتسقى مواشيها وتتزود بالماء من نفس البئر، قبل أن تتحاربا في يوم من الأيام.

في تلك السنة كان الصيف قاسيا، وكان تزاحم المواشي على البئر يثير المشاجرات كل يوم تقريبا، حيث كانت البئر كثيرا ما تجف، إذ لم يعد نبع مائها قادرا على مجاراة دوران البكرة واغتراف الرشاء.

وكانت هاتان القبيلتان من قبائل الزوايا، المفترض أنها ذات طبيعة هادئة، وإن كانت تؤوي مجموعات أقل هدوءا (أتباعا وخداما).

لنطلق على إحدى هاتين القبيلتين اسم قبيلة أهل فلان، وعلى الأخرى اسم الفلانيين. أهل فلان يدعون أن البئر لهم باعتبار أن جدهم هو الذي حفرها عام الجراد، أما الفلانيون فقد تعودوا عليها منذ خمس سنوات، ولا خيار لهم لاسيما في هذه الفترة الصائفة حيث تكون المواشي هشة، مما جعلهم محتاجين إلى جيرانهم هؤلاء الذين كانوا يذكرونهم في كل مناسبة بأنهم بين ظهرانيهم وفي أرضهم, والذي يزعج هؤلاء ليس علية القوم وإنما حواشيهم (الأتباع والخدام).

وفي يوم بالغ الحرارة، ونظرا لوفرة غير معتادة في مواشي الفلانيين وجدت راوية أهل فلان صعوبة في ملء قسم من قربها، رغم أنها الأحق بالماء حسب الميثاق العرفي، مما جعل هذا اليوم ينقلب إلى يوم عداء متبادل بين الطرفين إلى درجة أن أهل فلان الهادئين تقليديا ثارت حفائظهم بسبب من نقله إليهم الوراد القادمون من البئر، وقالوا إن جيرانهم المزعجين أصبحوا متغطرسين. وبما أنه حدثت مشاجرات بين رعاة المواشي والوراد فقد اندلع النزاع بين الطرفين. وتبعا لذلك اجتمع مجلس مصغر بحي أهل فلان، لم يكن ذلك المجلس مجلس حكماء الحي وإنما اجتماعا لشباب متحمسين أوغرت صدورهم المناوشات ومعهم بعض الأتباع، وتقرر خلال هذا الاجتماع عدم السماح للفلانيين بسقي مواشيهم مادامت مواشي حيهم أو راويتهم بالبئر، قرار أحادي ومثير للحفائظ لم تتم مناقشته مع الطرف الآخر. وأيضا غير منطقي فحتى إذا كان الوراد يتمتعون بالأولوية فإن المنطق يقضي بأن تسقي المواشي بحسب ورودها إلى البئر.

وفي الصباح الباكر كانت البئر قد احتلت من قبل مجموعة أهل فلان ومواشيهم، ثم لم يلبث أن جاء الفلانيون ومعهم مواشيهم الوفيرة عطشى، فنشبت المعركة، ووصل الخبر إلى الحيين ودعي جميع الرجال القادرين إلى تعزيز قوات الطرفين في “حرب الماء” التي اندلعت للتو.

واستمرت المعارك الشديدة طيلة اليوم، مع استراحات أحيانا لتمكين الرجال من ملء أوعيتهم أو سقي مواشيهم التي هي على وشك الهلاك، إنها “حرب إنسانية”.

وعندما حل المساء كانت بوادر التعب قد بدأت تظهر على رجال أهل فلان، ولم يحل الليل حتى كانوا قد هزموا نهائيا، وغادروا البئر، والذين تراخوا في المغادرة تم تعقبهم وضربهم حتى وصلوا إلى حيهم.

والسبب معروف: تفوق الفلانيين لخبرتهم التقليدية في الحرب، ولكونهم لاعبين متمرسين “للدبوس”.

وستحدد هذه الحرب التاريخية علاقات هذين التجمعين المجبرين على تحمل كل منهما للآخر والعيش في نفس الفضاء.

وخلال الليل لم يكن أحد يتحرك في حي الطرف المهزوم، فقد كان الحزن يخيم عليه، أما المنتصرون فواصلوا سقي مواشيهم في جو احتفالي بالنصر، حتى ارتوت، ثم عادوا إلى حيهم في زهو وفخر، مما سمح للمنهزمين بالتسلل إلى البئر لسقي مواشيهم وملء قربهم، وهم يدركون أنه في المستقبل عليهم أن يحسبوا لهؤلاء العمالقة حسابهم.

وفي ساعة متأخرة من الليل اجتمع مجلس حماء الحي المهزوم، بدعم من كبير الحكماء وإمام المسجد المبني من الأغصان حول جذع شجرة كبير.

وبعد التأكد من حضور الجميع، دعاهم الإمام بأسمائهم واحدا واحدا طالبا من كل منهم تقديم حصيلة بالأضرار التي لحقته خلال هذا اليوم العصيب. والحصيلة العامة كانت: لا قتلى ولا جرحى جراحا خطيرة، كسر أو اثنان، وتعب عام، وآلام عضلية تسببت فيها ضربات العصي..

رفع كبير الحكماء عينيه باتجاه السماء وبدأ في الدعاء بصمت، وبعد لحظات أخذ يتحدث بصوت مرتفع: “ندعو الله الرحمن الرحيم أن يمنحنا الآن وأبدا حياة هانئة وهادئة (الله إبرد اعلين واعل تورجه).

وبعد قليل من التردد أدركوا وجاهة ما قاله الإمام فقاموا بترديد دعائه بعده، مع التركيز على تورجه التي اعتبروها حليفا نفيسا.

وهذا يفسره كون نواحي البئر التي دارت فيها المعركة الطاحنة كانت مملوءة فقط بتورجه، فالخصوم باستثناء بعض العناصر التي كانت تمتلك عصيا من تيشط أو الطلح كانت تتسلح من عصي قطعت من تورجه المعروفة برخاوتها بسبب طبيعتها اللبنية.

هذه القصة تذكرنا بالوضعية السياسية الراهنة للبلد: المعارضة الراديكالية (منسقية المعارضة الديمقراطية) التي تعاني من ارتداد صدمات إصرارها على بعث ثورة في موريتانيا بواسطة سلاح الشعارات الذي تحمل، من قبيل “ارحل” على غرار الدول المغاربية التي لا تزال تتلمس طريقها للخروج من ورطتها. ففشلها يعود إلى الضعف الهيكلي للمعارضة من جهة، وعفوية وعدم قناعة المواطنين الأكثر انشغالا بشؤونها اليومية بالمعارضة والطموح الجارف لسياسييها المفتقدين للواقعية من جهة ثانية. فهؤلاء السياسيون المعروفون بكثرة إخفاقاتهم الانتخابية لم يعودوا على ما يبدو يعولون إلا على من يحملهم في مظلة أو يختزل لهم الطريق للوصول إلى السلطة، بالنسبة للبعض منهم، أو يشاركهم فيها بالنسبة للبعض الآخر. كما تلعب الضغينة والاعتبارات الذاتية كذلك دورا في الاستيراتيجية غير الناجحة لهذه المجموعة، الضغينة التي تظهر كل يوم من خلال تصريحات نابية وسباب ضد كل من يتحرك (أشخاص، قبائل، هيئات…).

وحتى الآن رغم الهجوم المتعدد الجهات وسياسة “الأرض المحروقة” فإنه لا توجد أضرار بفضل الحكمة ومعالجة القضايا بالوسائل اللينة (من نوع تورجه).

وهذا يحسب لصالح السلطة العمومية، لاسيما إذا كنا نعرف أنه في السينغال المجاور المشهور بديمقراطيته هناك سياسيون معتقلون حاليا بسبب الإساءة إلى رئيس الدولة، بينما لدينا الإساءة والتلفيقات الكاذبة أصبحت تمثل رياضة مفضلة لمسؤولي منسقية المعارضة الديمقراطية ومنتخبيها، في كل مناسبة وفي كل مكان.

وحتى في أعلى مواطن الديمقراطية كالبرلمان لا يتورع بعض المنتخبين المصابين بمس أو فقد التحكم عن إهانة بعض الشخصيات الخاصة غير المعنية بالتسيير، وأحيانا القبائل، دون أن نتحدث عن التصريحات المنقولة عبر بعض وسائل الإعلام الجديدة التي تخلط بين الخبر والقيل والقال.

البعض يقول بأنها أزمة قيم، وأقول بأنها أيضا أزمة رجال، وأعني هنا أولئك الذين لا يستقيلون رغم استهلاكهم الجلي الذي ينجم عنه نقص في وضوح الرؤية في سلوكهم وسلوك محيطهم الذين يؤثرون فيه (يسيطرون عليه أو على بعضه بوسائل أفضل عدم الخوض فيها).

ولكي أعود إلى قصة البئر وطرفيها المحكوم عليهما بالعيش معا، علينا أن نتعلم احترام قواعد اللعبة الديمقراطية، لأنه باسم هذا المفهوم المسمى الديمقراطية الذي أصبح عالميا يطالب أبطال ثورتنا (الخشبية؟) بمطالب مستحيلة.

إن الانتخابات تقترب، وكل شيء جاهز من الناحية التقنية لإجرائها، ألم تعلن اللجنة المستقلة للانتخابات تاريخ 15 اكتوبر المقبل كأجل أقصى؟

ماذا ينتظر أبطالنا الديمقراطيون لتقديم أبسط إشارة على احترامهم للمواطن؟ إذ الأمر يتعلق بالمواطن لأنه هو المدعو إلى اختيار ممثليه المحليين (العمد والمستشارين) والوطنيين (النواب).

إن الأحزاب ستحظى بالامتياز هذه المرة، بفضل الإصلاح الذي تضمن إلغاء الترشحات المستقلة، وتطبيق النسبية التامة في أكثر من 60% من النواب وكل المستشارين البلديين. كما أن كل مطالب المعارضة المتعلقة بالشفافية منذ عريضة اتحاد القوى الديمقراطية/ عهد جديد 1994 إلى اليوم قد أخذها في الحسبان وتلبيتها خلال الحوار بين أحزاب الأغلبية والمعاهدة، والكل متفق على أن أعضاء اللجنة المستقلة للانتخابات التي مثل اختيارها إشكالية من حيث المعايير والمتطلبات، يتمتعون بأخلاقيات رفيعة، وسمعة جيدة في مجال العمل، مع وسائل مادية ضخمة موضوعة تحت تصرفها، دون أي تدخل لها. كل ما يمكنه أن يضمن إجراء انتخابات نزيهة وشفافة، ولم يبق إلا رواد السياسة. كل من قاطع الانتخابات لسبب أو لآخر سيرتكب خطأ (هل هم عازمون على ذلك فعلا؟). هذا سيكون ببساطة انتحارا سياسيا. الأحزاب (معارضة وأغلبية) يجب أن يشركوا في كل مراحل المسلسل الانتخابي، منذ التسجيل على اللوائح الانتخابية حتى إعلان النتائج، فلا أحد يعارض هذا الحق. أنا أعتقد بأمانة بأنه لا شيء يمنع من إجراء الانتخابات التي تأخرت كثيرا، وهناك من الأشخاص من لا يرغبون في إجرائها لأنهم يملكون جدول أعمال آخر.

هؤلاء الأشخاص، حتى ولو كنا نرغب في أن يتبنوا مواقف أكثر تسامحا، ويجب ألا يظلوا يواصلون الضغط من خلال إرهاب لفظي هدفه غير المعلن زعزعة البلد، كي يحكموه هم على طريقتهم (أي طريقة!!). هذا ببساطة غير مقبول. وعلى الذين يريدون أن يدفعونا إلى ابتلاع فكرة أن هناك أزمة سياسية عليهم أن يفقأوا أعينهم بأصابعهم، أما الأزمة فيجب البحث عنها في موضع آخر، فالتحريض ليس مرادفا للأزمة.

وعلى المعارضة الراديكالية (منسقية المعارضة الديمقراطية) أن تخفض من تقديراتها لقدراتها التخريبية، وأن تدرك أن المشاركة تظل دائما أفضل من ثورة مفترضة، حتى ولو كانت من الخشب.

والسلام على من يحسن الاستماع.

 

 

شاهد أيضاً

الممثل المقيم للبنك الإفريقي للتنمية بموريتانيا في مقابلة مع “المرابع”: مشروع “RASME” هو حل رقمي للإشراف على المشاريع ومراقبتها وتقييمها عن بعد

على هامش ورشة العمل الخاصة بمشروع الإشراف والتقييم والمراقبة عن بعد(RASME) التي بدأت أمس الثلاثاء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *