الاختلاف سنة من سنن الله في الناس والأشياء، لكن الخلاف في الدين مذموم وقد يكون محظورا إن أفضى إلى زيادة في الدين أو نقص منه.
ليس الإسلام مشاعا لا أصل له، وليس حالة سائلة ليس لها من أساس صلب راسخ، بل هو “ما كان عليه النبي وأصحابه” من شرْعة ومنْهاج؛ وليست كل الفرق والمذاهب سواء في اتباع ذلك الأصل، بل إن بعضها بعيد منه بعد السماء من الأرض، لكنها تبقى من أهل القبْلة ومن مجموع الأمة.
وسيظل حال هذه الأمة فيه من الاختلاف الشيء الكثير، لكن بيضة الدين يحفظها من هم على قدم النبي وصحبه وهم في كل زمان ومكان يعرفون بسيماهم وبأسمائهم أيضا، كما يشار إلى غيرهم بالبنان لمن أراد ذلك.
لكن المؤسف اليوم أن تبدو معالم المشروع “التجديدي” الذي يقوم به بعض المفكرين من الشيعة ومن السنّة المُتشيّعين، من يجمعهم العداء لما يسمونه” الإسلام الأموي”، مجرد نبش للقبور واسترجاع للماضي ونكء للجراح وأيضا قراءة للتاريخ بعيون الحاضر وبقليل من الحيْدة والتبصّر.
جوهر الإسلام هو عصر النبوة، وعهود التزكية، والمقصود بهما ليس عصمة الرجال لا صحابة ولا تابعين، بل الاحتفاظ لهذا الدين بعصر أنواره المؤسسة، بها نستضيء وإليها نرجع وعليها نبني وهو حال غالبية من قبلنا قبل التحريف والفساد.
ولن يتم تجديد هذا الدين لا بنبش القبور ولا بالإساءة إلى الصحابة والتابعين ولا بالتطاول على أئمة الإسلام كالبخاري وأمثاله.
ولن يكون التجديد أيضا غمزا من قناة هذا العالم أو ذاك، أو محاولة استئناف النظر في مباحث أسدى فيها من قبلهم وأناروا وبيّنوا وأثاروا، وهم على ورع من الدين وصلابة في الحق وصدق في البحث عن الحقيقة وإفراغ للجهد في طلب الصواب.
بينما لا يحوز من يعبثون اليوم بعصر النبوة وأعلام عصور التزكية، نزرا يسيرا من تلك الأوصاف، بل إن الغالب على أكثرهم الجرأة على الفتيا والتسوّر لمحراب الأصلين من غير فهم ولا روية، وأيضا التعصب للرجال والانتقاء للأزمنة والأمكنة، ما يتعارض وما يرفعون من شعارات الأمانة والإنصاف.
وقصارى ما تدور عليه أفهامهم و”اكتشافاتهم” أن الأمة لم تعط أهل البيت حقهم ولم تفد من علمهم، وكأن لنا دينا صحيحا غير ذلك الذي نقله الصحابة والتابعون ومن قفوا نهجهم.
تلك خطة لا غناء فيها ورأي لا خطر له، وإن كان مزعجا لأنه من داخل هذا الدين ومن بعض أهله. أما غيرهم ممن يريد علمنة الإسلام فهو يتكلم من خارج الدين وحضارته.
ولذلك يبدو المشروع الفكري العلماني العربي، مجرد محاولة جديدة لعلمنة الإسلام وفصله عن الشأن العام وعن الحياة الدنيوية، تماما كما كانت أفكار المعتزلة وغيرهم من المتكلمين، وليس من فرْق إلا في الزمان والمنهج، أولئك يهاجمون الإسلام من خارجه وهؤلاء كانوا يحاولون “هدْمه” من الداخل!
وجد المُتعلمنون العرب في ابن رشد ضالتهم المنشودة، لمكانته العلمية والدينية وإسهاماته الفكرية الجليلة، على ما فيها من أخطاء وشبهات، لكنها تبقى زلّة عالم واجتهاد متبحّر، وليست ضربا من العبث والقول على الله بغير علم.
لم يكن المعتزلة ولا ابن رشد وأضرابه ومن ينهج طريقتهم وغيرهم من المتكلمين المسلمين، علمانيين مطلقا، ولم يرفضوا تحكيم الشريعة، لكنهم أحدثوا في الدين ما ليس منه وبهرتهم سؤالات قلقة وضلالات معرفية خدّاعة، هم حديثو عهد بها، وتلك مظنة أخطائهم وسيئاتهم، لكن تراثهم اليوم صار محل قراءات تبسيطية ظالمة وخبيثة.
لم تكن العلمانية مطروحة في المجال الإسلامي، لا في الأندلس ولا خارجها، لا في عهد ابن رشد ولا من قبله، أي أنها بلغة اليوم لم تكن من المُفكّر فيه بعد، بل إن جوهر الاختلاف بين منتجي الفكر آنذاك كان حول إشكالية الإفادة من المعرفة الاستدلالية ما قبل ـــ إسلامية، ومدى توافقها أو تعارضها مع العقل الإسلامي القائم على الإجماع والتركيب بين الوحي وبداهة الحس بينما كانت المعرفة الفلسفية والمنطقية اليونانية تستند إلى العقل وتقيس عليه فهو أصل وحُجّة في الآن ذاته، ومن هنا وجه الاتفاق و الاختلاف بين العقل الإسلامي والعقل الكوني المجرد.
ولذلك كانت مباحث الفكر الإسلامي، منذ البداية، تدور حول الإستدلالات الكلامية لإقامة الدليل الكلامي حول معقولية العقائد، وذلك لرد الشُّبَه ومبْهم السؤالات الفلسفية و”الباطنية”، ولكنها قطعا ليست هي جوهر العقيدة الصافية والشريعة القويمة.
لكن ابن رشد ذهب بعيدا، شيئا ما، في البحث عن شرعية المعرفة الفلسفية اليونانية والتأسيس لها في الدائرة الإسلامية واستخدم لذلك ذخيرته في علم الأصول والتفسير واللغة.
قطعا كانت دوافع الفقهاء ضده سياسية في المقام الأول، لكنهم تحسسوا شيئا مزعجا في الخطاب الرشدي جعلهم ينفرون من خطابه واستدلالاته وتقعيده للمعرفة الفلسفية الإسلامية على ذلك النحو.
ما الذي أخافهم وأزعجهم، زيادة على خشيتهم من حظوة الفقيه ابن رشد والتمكين له في بلاط الموحدين؟ لقد كانوا على وعي بان الإسلام ليس في حاجة إلى أقيسة المناطقة ولا استدلالات المتكلمين، وأن تلك الفلسفات “ما دخلت على قوم إلا وأفسدت عليهم دينهم وكدّرت صفو معايشهم” وهي بالمناسبة عبارة قالها واحد من كبار الروم ردا على بعض جلسائه من حكماء تلك البلاد راجعه بشأن كتب الفلسفة التي طلبها المأمون وجعلها شرطا في الصلح.
ثم إن العصر الذي عاش فيه ابن رشد كان أواخر النهضة الإسلامية في بغداد والأندلس، لكن شمس الحضارة الإسلامية كانت تتهيأ للمغيب، وكانت تواجه هجوما شرسا من الحركات الباطنية في الشرق ومن المسيحية الأسبانية في الغرب.
كان الغزالي في المشرق هو رأس الحربة الإسلامية ضد الباطنية التي تحاول اختراق الإسلام رافعة شعار “علوم الأوائل” وأنها نافعة ورفضها إضرارٌ بالإسلام وبالمسلمين، لكن الغزالي رفض تلك المحاولة وبيّن “تهافتها”، وهو عينه شعار الحداثة التي يرفعها الرافضون اليوم للإسلام وحضارته.
أما ابن رشد فكان وريث المدرسة الأندلسية التي قبلت الفلسفة اليونانية وأرادت أسلمتها، وكأنها منتج قابل للأسْلمة أو يمكن للإسلام أن يقبل حمولاتها الوثنية والمادية.
رغم ذلك كانت كل الفرق تختلف وتتصارع لكن من داخل الدائرة الإسلامية وليس من خارجها، وإن ضلت أو أضلت فهي تستدل بالدين لا بغيره، وإن انحرفت قليلا أو كثيرا، كان ذلك مشعرا بالابتداع والضلالات فينفر منها عوام المسلمين وخاصتهم.
أما أكثر المراجعات “التجديدية” المُتشيّعة، في أيامنا، فهي مجرد تبرير لمصالح شخصية ومواقف خاصة، لا أكثر ولا أقل، لأن الفصل بين المآرب والآراء صعب ودقيق.
وسيظل أي مشروع معرفي أو سياسي مشروعا ومقبولا، ما دام من داخل الدائرة الإسلامية وليس من خارجها، وما التزم قدسية عصر النبوة وكرامة عصور التزكية وأيضا حرمة دار الإسلام ومصالح أهلها.
أما هذا الدين الحنيف فسيظل محميا بعدوله “ينفون عن تحريف الغالين وانتحال المبطلين”.
ولله الأمر من قبل ومن بعد
كتبه عبد ربه الغني به
حماه الله ولد السالم
عند بئر (تنْ آگْشُّوظ) المحروس من البحر بإذن الله