لحظة فرح و ابتهاج لا أريد أن تفوتني، فقد حملت إلي الأنباء العاجلة خبر فوز صديقي إبراهيم أبوبكر كيتا بالانتخابات الرئاسية المالية.. أعرف الرئيس المنتخب فقد استضافني في بيته بباماكو ، ولم يكن رجلا أريحيا كريما فحسب، بل كان رجل نخبة ورجل دولة ومجتمع يتمتع بحس سياسي وطني راق، ويفهم كثيرا في أبعاد المدرسة الكونية لإدارة الشعوب والأمم. وهو فضلا عن ذلك رجل مثقف عميق.
فاز إبراهيم أبوبكر كيتا في انتخابات حرة وشفافة بشهادة منافسه والمجتمع الدولي، بلغت فيها نسبة المشاركة حدا غير مسبوق: 45%. في مالي.
أريد حقا أن أهنئ صديقي بالثقة التي وضعها فيه الشعب المالي الحبيب في هذا المنعطف الخطير و الحساس من تاريخه و هو يعول عليه في إنجاز المعجزات و بذل المستحيل من أجل انتشاله و إنقاذه من الوضع المأساوي و المصير الحالك الذي بات يهدد كيانه و أمنه و حياته. أهنئه أيضا بأن بلده مالي تستقطب الآن اهتمام المجتمع الدولي، قطعا ليس حبا في سواد عيون الماليين ولكن خوفا على الأمن الدولي.. فالظروف التي عاشتها مالي خلال السنة الماضية أرعبت القوى الإقليمية والدولية أكثر من الماليين أنفسهم رغم حجم الضحايا و وزن المأساة الناتجة عن حرب قذرة عنوانها الإرهاب والتصفية العرقية وعمليات القتل والسحل والاغتصاب والتشريد.. وكادت تختتم بسقوط باماكو والجنوب لولا التدخل الفرنسي. ثمة في لحظة الفرح هذه بعض الرسائل التي أود توجيهها إلى الصديق إبراهيم أبوبكر كيتا.. ولا شك أنه سيفهمها، وهو الذكي ، وسيفهمها بعقلية رجل الدولة المتدين الطيب، والوطني الحاذق.
إن المجتمع الدولي مقبل بزعمه على إغداق مليارات الدولارات كمساعدة لمالي، كما جاء بقواته إلى الأدغال المالية تأكيدا على جديته.. هذا مهم جدا.. وهذا الامتياز حصلت عليه الدول الجريحة بالإرهاب، لكن المجتمع الدولي بعد أن تبين أن جرح بعض الدول عميق ونزيفه جارف انسحب بقواته وأمواله وترك تلك البلدان تحت رحمة النزيف: الصومال والعراق مثلا.. أفغاسنتان وباكستان قريبا.
يعني ذلك أن الفرصة محدودة ونسبية، وأن الوقت ضيق أيضا، وأن أموال التلهية يجب أن لا تخدع صانع القرار المالي. إن مالي في قاموس و كناش الاقتصاديين الليبراليين دولة فقيرة في غرب الساحل الموتور.. لكن خارج هذا التقييم للأشياء، فإن مالي أمة حضارة وتاريخ عريقان. فمنها غذت قوافل العلم والدعوة والذهب شريان الحياة الروحية والمادية لشعوب كثيرة في منطقة الساحل.
وهكذا فإن استعادة عظمة الأمة المالية ليست عملية وهمية التصور، أو مستحيلة التنفيذ، إذ سبق للأمة المالية أن حفرت أساسات عميقة في التاريخ. يجب العودة إلى تلك الأساسات لتشييد انطلاقة جديدة تلقي بالثروة البشرية التي يمتلكها هذا البلد في أتون تنمية ذاتية مبدعة وذكية.
إن دول آسيا، المتسولة للصدقات خلال عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي، باتت منارات اقتصادية أو نمورا، بتعبير الاقتصاديين، وذلك عائد إلى سبب بسيط هو أنها استنهضت قيمها وخصائصها الإنسانية، وعرفت كيف تستغل المستنقع بدل الانزلاق فيه، أو بتعبير أكثر دقة تمكنت من تحديد الأولويات الجوهرية على حساب المشاغبات الثانوية، التي تحولت في بلدان أخرى إلى معارك وصراعات لا ترحم. صراعات عبثية أنانية قاتلة وغبية على غرار بحث الجائعين عن دواء للتخمة.
لعلنا هنا بحاجة قليلا إلى تذكر بعض مسببات الأزمة المالية الحالية.
إن ما حدث في مالي خلال عام 2012، هو أن الكرة تم نقلها إلى ملعب بديل. كانت هناك مباراة مطلوب إجراؤها إقليميا و دوليا، و ربما حتى داخليا، أي داخل النسيج الوطني لشعوب دول الجوار.. وكان الملعب الموريتاني هو المقصود بتلك المباراة. فما حدث في مالي من احتلال القاعدة لثلثي أراضي البلاد، وما أحدثه ذلك من خراب و ويلات و تكاليف إنسانية و تنموية، كان مخططا له أن يتم على الأراضي الموريتانية. وهكذا انتقلت جزيئيات المخطط من “لمغيطي” 2005 إلى معارك في شوارع العاصمة نواكشوط بين عشية وضحاها 2008.
كانت قوى إقليمية “تسافح” إرادتها مع قوى دولية كبرى في تبرير بنود الصرف الأمني والتخطيط لمصالح كثيرة وكبيرة..
كان لا بد من ضحية وصومال جديدة في المنطقة، وكان الفرع المغاربي للقاعدة أداة الاستدلال إلى ذلك المخطط.
ما حدث هنا أن المؤسسة العسكرية الموريتانية، تحت قيادة قائدها الأعلى، الرئيس محمد ولد عبد العزيز، اكتشفت بسرعة ذلك المخطط العدواني، وقامت بسرعة فائقة بإعادة بناء الجيش والأمن وفق منظومة دفاعية وهجومية و فكرية مكنتها من استباق الأحداث و قطع دابر المشروع التدميري و وأده في المهد. إن حجم التعاطف الشعبي الموريتاني مع القاعدة والسلفية الجهادية تراجع إلى نسب عشرية بعد أن كان رجال القاعدة “أبطالا وطنيين” تختار أسماؤهم للمواليد الجدد في موريتانيا. أغلق الملعب الموريتاني في وجه الإرهاب بسرعة لم يتوقعها منظمو المباراة.. لكن كان من المفاجأة أن ملعبا بديلا فتح أبوابه ودعا المشجعين و وقع الاختيار على الأرض المالية.
لقد كانت موريتانيا هي الأكثر صراحة من بين جميع الدول مع الشقيقة مالي طيلة سنوات 2008 الى2012.. وحاولت التوصل مع المسئولين الماليين السابقين إلى بناء منظومة تعاون مشترك لإخراج القاعدة من المنطقة.
لكن، كان للرئيس توماني أجندة و إستراتيجية خاصة للتعامل مع القاعدة و الإرهاب. وحتى لا نطيل في هذا الموضوع، فسأستدل على ذلك بمشهد أحد أبناء الرئيس المالي المخلوع توماني تورى وهو يتسوق في كازينوهات إيطاليا ، فقد كان يصرف بسخاء، وكانت الدولارات التي بحوزته قادمة من أمراء القاعدة، كما ثبت ذلك من خلال تتبع أرقام تلك الدولارات التي منحت كفدية مقابل إطلاق سراح الرهائن الغربيين. استدلال آخر: لقد كان امتناع السنغال عن اعتقال “خلية شبارنو” بعد أن كشف الأمن الموريتاني موقعها في دكار يصب في نفس الاتجاه.. أدلة صغيرة و كبيرة، أمور مكشوفة و مستورة، تأخذ مجراها إلى المصب الذي أريد لموريتانيا أن تغرق في مياهه الملوثة. لكن الله سلم.
لقد توصلت فرنسا عام 2011، إلى خلاصة مبكرة، وهي أن نظام توماني توري بات جزءا من منظومة القاعدة أكثر من المنظومة الطبيعية. لقد فتح ذلك أكثر من باب للريح، بل نزع السقوف، فمن جهة تم التمكين للسلفية الجهادية في شمال مالي، حيث أقامت بنيتها التحتية ونشطت في تجارة الرهائن، وخلقت اقتصادها البديل عبر تهريب المخدرات، وتجارة السلاح، والمحرمات، ورعاية شبكات التهريب بكافة أشكالها وبضائعها..
ومن جهة أخرى، جاءت التحولات الاجتماعية في شبه المنطقة، لتنكأ الجرح العرقي لدى طوارق مالي.. وهو جرح كان النظام المالي المخلوع يرمي عليه المزيد من الديدان السامة.
لقد تفرج نظام توماني تورى على جيوش كاملة، وفق تعبيره، وهي تنقل تركة خزائن أسلحة القذافي إلى الشمال المالي، ولم يحرك ساكنا.. إن الأسلحة التي استخدمتها القاعدة في السيطرة على شمال مالي وفي معركتها لطرد مقاتلي الحركة الوطنية لتحرير أزواد من المدن، هي نفسها الأسلحة التي “مرت” بإذن خاص من بين القواعد المالية، ولم تثر أي ردة فعل، لأن ذلك شأن الأصدقاء.
لقد دفعت تلك السياسات الرعناء بمالي إلى عمق المستنقع، فخاضت حربا أهلية ثم سيطرت التنظيمات الإرهابية على 65% من أراضيها. ولم تتوقف إلا بأكبر تدخل عسكري فرنسي من نوعه في أي بلد إفريقي منذ استقلال البلدان الإفريقية.. وطبعا بفضل التدخل العسكري الإفريقي أيضا. ’ الآن استعادت مالي السيطرة على أغلب أراضيها.. وأجرت انتخابات أنهت المرحلة الانتقالية.. لكن واهم من يظن أن الإرهاب هزم في مالي، أو أن حبة رمل واحدة من ذلك التراب الغالي لا تشوبها هناك شائبة إرهابية..
لأن آلاف المقاتلين السلفيين وترسانتهم لم يتبخروا، ولم يعلنوا التوبة عن الفكر الخوارجي.. وما زالوا هناك تحت رحمة تعدد المظاهر.
يدرك فخامة الرئيس إبراهيم أبو بكر كيتا هذا الأمر المرّ.. ويعرف تمام المعرفة أن تجاوزه ليس عملية سحرية، وأن القفز عليه ليس ممكنا، ولا بد من التوقف لنزع الحواجز، لأن الواقع لا يقبل الانتقال المظلي للأزمات. خاصة في منطقتنا الإفريقية التي يراد لها الكثير ويراد منها أكثر.
إن الشر المتربص بمالي، بل وبشعوب المنطقة كلها لم يشارك في الاقتراع حتى يقبل بالهزيمة.. إن هزيمته مسألة إجبارية، ويجب حمل الأدوات المناسبة لتلك الهزيمة الحقيقية النهائية، والاستعداد لدفع فاتورتها، ولأنه أيضا لا يسدد إلا الأقوياء.
إن أول ما يجب أن يضعه الرئيس المالي المنتخب أخي وصديقي إبراهيم أبوبكر كيتا في الحسبان، هو أن أمن مالي ومصالحها جزء لا يتجزأ من أمن دول الجوار، و مراعاة مصلحة الشعب الواحد الذي يعيش في عدة دول أمر إجباري وحتمي ليس أقله أحكام الجغرافيا والماضي المشترك، والمصير الواحد.
إن الميزان الحديث يعمل بكفة واحدة، وكل ما هو مطلوب أن تُراقَب المؤشرات بدقة.. إننا في كفة واحدة وعلى ميزان واحد.. ومقاييسنا هي نفسها.
أحلم هنا، بل أقول و أطلب أن يتحرر الرئيس المنتخب من العقدة التي تشعر بها بعض نخب الجنوب إزاء مشكل الشمال المالي.. الرئيس الجديد الذي كان يبدأ مهرجاناته بآيات القرآن الكريم يجب أن يترجم مضمون ذلك في عملية سلام شامل دائم وعادل.
إن كل دول المنطقة وعلى رأسها موريتانيا والمغرب والجزائر أعلنت أنها ترفض رفضا صارما المس بالوحدة الترابية المالية المقدسة.. والسلام يجب أن يكون تحت الراية المالية الواحدة، ومما يعززه هو أن يوكل تحدي تنمية الشمال إلى أبنائه تحت أي مسمى.. فمن شأن ذلك أن يضع حدا للمظالم التاريخية التي عاناها سكان الشمال، بل وحروب التصفية البغيضة على أساس العرق.
إن ضمان حقوق سكان الشمال هو وحده الكفيل بتحقيق الاستقرار في مالي وإلى الأبد. وهو وحده الكفيل بطرد الإرهاب وهزيمته، والسلام المرتقب يجب أن لا يترك مجالا واحدا لاحتمال تسرب المأساة مرة أخرى…
إن السلام هو الصناعة المفضلة للعقول الكبيرة، و لرجال التاريخ، و قادة الأمم العظيمة.. وهو الحق الأصلي و الطبيعي للأطفال و النساء والرجال.
إن التعويل هنا لا يجب أن يكون على المجتمع الدولي، بل على الماليين أنفسهم.. إن المجتمع الدولي قابل الآن لممارسة أي ضغط على سكان الشمال لإجبارهم على التوصل إلى حفل سلام شكلي لن تجف أنخابه قبل أن تنزف دماء جماجم الضحايا في الجنوب والشمال مرة أخرى.. وهذا ما يخافه الذين يحبون الشعب المالي العزيز الطيب.
إن الرهان على الماليين وحدهم… على النخبة والحكماء والعقلاء و الوطنيين.. إن هؤلاء لا يمكن أن تجرفهم حفنة من العنصريين أو ضيقو الأفق العقلي إلى اللعب بمستقبل مالي.
و هكذا، فإن رسالتي لك أخي وصديقي العزيز هي أن تفرض السلام بالحب والوطنية قبل اللجوء للمساومات و الضغوط.. لأن معطيات التاريخ تعلمنا أن الدولة أزكى لها و أطهر أن تستقوي بأبنائها بدل أن تستقوي عليهم.
أدرك تماما صعوبة مهمتكم، لكنني أيضا أدرك قدرة الرجال على تجاوز الصعاب.
إن مالي أمام منعطف حاد الزاوية، لكن يعرف الرجال الأذكياء مثلكم كيف تتجاوز القافلة المنعطف كي لا تتوقف مسيرتها.
كل الأماني و الدعوات الضارعة و الخاشعة إلى الله تعالى لكم بالتوفيق و السداد، و للشعب المالي الشقيق بالاستقرار و الرقي و الازدهار.
وهذه تحياتي الأخوية الصادقة.
الدكتور الشيخ المختار ولد حرمة ولد ببانا
موريتانيا