قال لصاحبه وهو يحاوره: حدثني يا صاحِ عن سيدة من نساء العرب تناقلت الركبان أخبارها لا هي بالخنساء الشاعرة المودعة لبنيها وهم يموتون تباعا وإن كان المأساة تجمعهما، وما هي بنسيبه أحُد المقاتلة وإن كانت تقترب منها في الصمود، هي امرأة كثر حديث الرعاة عنها ولهجت ألسنة الشعراء
عن مناقبها، صاحِ أسائلك عن هذه المرأة لم تشفِ لي غليلي عنها مذ عرفتك ولم أعلم كثيرا عن قصصها، إنما هي شذرات استرقها من حادٍ يحدو نوقه في بيداء، أو خطيب يحاول أن يمر على ذكرها مرور بنيها، أو حديث هنا وهناك من حفدة غلبهم الحياء يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف لا يتحدثون عن مناقب جدتهم إلا قليلا، صاح حدثني عن هذه المرأة..
ففال له صاحبه: لقد سألت عن سيدة عظيمة عظم مأساتها، صابرة صبر تُماضر بنت عمرو “الخنساء”، صامدة صمود النبي يعقوب، هي مأساة أقصها عليك فأعرني قلبك وأنصت إلي، وبالله لا أحدثك كذبا إنما هي الحقيقة أسردها عليك سردا..
مريم بنت الوديعة امرأة من نساء العالمين عاشت ثمانين حولا من الدنيا طافت فيها مع فلدات أكبادها بأرض معطاء شرقا وغربا وكانت تربيهم على قيم العرب النبيلة وتعلمهم أمور دينهم وتحفظهم القرآن وعلومه، تلقنهم كيف يكونون فرسان زمانهم حتى إذا ما ترعرعوا وكبروا سافروا وتغرّبوا كما العرب يتغرّبون لطلب العلم، ويا ليتها أدركت من أول يوم أن أيام الدنيا تخبئ لها ما لا تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، ويثلج الصدر، سوف يعود أعزُ بنيها من غربة التعلم بعد سنوات من مفارقتها وبعده عن حضنها، فماذا سيحصل بعد رجوعه عالما في عدة فنون ناطقا بعدة ألسن؟
عاد فلذة كبدها محمدو ولد صلاحي إلى حضن أمه و مسقط رأسه وملاعب صباه مثقلا بكاهل الغربة والتعلم في بلاد “الروم” يحمل معه آمال وطن بأكمله فعلّم الأمير قبل رعيته وملأ الدنيا وشغل الناس وتناقل السامرون حديثه في سهراتهم الليلية، حتى إذا ما حانت ليلة وداع الأم السرمدي لابنها..
صاحِ هل تسمعني وهل تنصت لبقية القصة؟
هي ليلة ليلاء من ليالي شهر الرحمة والصفح والغفران رمضان الكريم، ليلة ستتبخر آمالها من بين يديها إلى أبد الآبدين، فبينا هي في سعادة مع ولدها الذي تناول معها الإفطار وصلى بها التراويح بصوته الشجي في منزل متواضع إذا بيد غادرة تطرق الباب طرقا وأحذية خشنة تتسلل نحو الابن تتخطفه من بين يديها ، إنهم يكيدون لها كيدا “سوف يعود ولدك للعشاء” وما يدريك ـ يا خليلي ـ أن العشاء سوف يطول انتظاره ويطول؟ وسوف تمضي السنون على السنين والوالدة المسكينة تغسل ثياب ابنها كل جمعة ظنت أنه وراء أسوار قريبة، سوف تعلم فيما بعد أن عصابة الأشرار قد سرقته وباعته بدراهم معدودة والتقطته بعض السيارة وألقته في غيبات الجب إلى ما وراء بحر الظلمات.
سوف تعيش الوالدة عشر سنين كانت أشد من سني يوسف بل أشد من سنوات يعقوب المفارق لأعز أبنائه، سوف تبقى أياما من الدنيا تحيا على بعض الأخبار السارة من هنا وهنالك، سوف تحزن كثيرا عليه عندما تسمع أنه ابتعد فعلا عن الديار آلاف الأميال فهي الآن في كمد مستمر، ابيضت عيناها من الحزن نادت مرات “يا أسفي على محمدو” ولقد أسمعتْ لو نادتْ حيا ولكن لا حياة لمن تنادي، وفي آخر ايامها قالت “يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر” ولكن عزيز القوم ظل متصامما عنها، لم يبق أمامها إلا أن تقرر الرحيل عن هذه الدنيا الحالكة، دنيا لم تعد فيها عدالة “عزيز مصر” ولا مروءة المعتصم ونخوته، أجل.. وداعا أيتها الدنيا البائسة المظلمة، وداعا لأقوام قدت قلوبهم من الحديد حيث لا رجال أشكو إليهم حالي، يا قومي سوف أنتقل عنكم إلى رحمة الله الواسعة هذا اليوم، سوف أنسحب من دنياكم وأودعكم غير آسفة عليكم وتالله إن أرضا يسرق فيها الأبناء من أمهاتهم فيباعون بالمزاد لشذاذ البشر لباطنها خير من ظاهرها .. وداعا لكم جميعا معشر المتحررين من الأخلاق،
أما أنت أيها الابن الغالي اصبر وصابر واحتسب رحيلي عنك وقسما سوف تعود إلى النور وسوف تعيش كريما معززا في أرضك، لا تحزن علي أبدا أنا ذاهبة إلى رب رحيم وسوف أقف أمامه وسف يقتص لي بعدالته ممن خدعوني “ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين” سوف يكون موتي ميلادا لرجال جدد أحرار لهم بقية مما ترك “آل صلاحي وآل عبد العزيز” من المروة وسوف يرثون هذه العاطفة مني والتي أسلمها لهم، وسوف تعود أنت و”أخوك” إلى النور وتتنفس هواء “توجنين” في بيتك المنسي، يا بني أوصيك بتقوى الله وأن تصفح عن كل من ظلمك ودعني أنا من يتولى محاكمتهم جميعا. لا تحاسبهم أبدا في الدنيا، وأوصيك أن تبقى تردد في نفسك قول الشاعر:
فإن الذي بيني وبين بني أبي
وبين بني عمي لمختلف جدا
إذا أكلوا لحمي وفرتُ لحومهم
وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا