26 أبريل 2024 , 15:09

المصطفى ولد حمال …..نعم الرجل

IMG-20160205-WA0019

بين وديان الركيبه وتلالها، بمنطقة لعصابه , حيث اﻷراضي الخصبة, والأنهار الجارية, وعربدة النخيل, وعلى وقع اﻹنتهاك اﻹستعماري وقسوته,  وُلِدَ المصطفى ولد محمد البشيرولد حمال سنة 1929م, فترعرع يتيما بين أخواله من “اشراتيت” ,ومع والدته الرائعة “امباركة منت سيد عبد الل ولد سيد اﻷمين”, اللتي ربته تربية حسنة, فعملت على دراسته وحرصت عليها أشد الحرص ,فكان لها ذلك ,مع إستجابة تامة من الولد الذكي ,الذي امتاز بنجابة فائقة بين أقرانه, كما عرف بالجد منذ نعومة أظافره، فحفظ القرآن العظيم وهو في سن مبكرة، بعد أن تنقل بين عدة مشائخ منهم: ( سيدي ولد ديدي ،من أهل مولاي الزين ،و سيد المختار ولد محمد ولد عبدي المسومي ،و أحمد فال ولد خطري التنواجيوي)، متنقلا بينهم ينهل من معينهم، وقد كان يدعو الله لهم بالخير والرحمة.

كان المصطفى واحدا من المهرة بالقرآن , حفظا ,ورسوخا في الذاكرة ,فقد كتب القرآن وحفظه أكثر من مرة, حتى أصبح لا يشق له غبار في حفظه . كان متواضعا، ذا خلق عظيم، وكان مع اقترابه من الله، جادا في دراسته وعمله، فلذلك كان الأهل يرسلون إليه أبناءهم للدراسة, فكانوا يهابونه كثيرا، لشدة حرصه على تعليمهم، لا يخاف في ذلك لومة لائم، وكان غايته القصوى، أن يبث القرآن في قلوب من استطاع، أما عبادته مع زهده وورعه، فحدث عنها ولا حرج.

في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، وبينما الإحتلال الفرنسي يلفظ أنفاسه اﻷخيرة، كان المصطفى على موعد مع رحلة إلى الله ورسوله، كأنه وحي من الله عز و جل، يوحي له ضرورة التنقل إلى الديار المقدسة، فانتشر الخبر، وبات صداه يسمع، ويردد عند كل فرد من اﻷهالي والجيران، فمنهم من استصعب عليه المهمة أو استحالها، لقلة توفر اﻷوراق أنذاك وقلة توفر وسائل النقل، وقلة خبرة الرجل باﻷسفار، خاصة إلى المناطق البعيدة، واللتي قد تكون محفوفة بالمخاطر، ومنهم من كان يؤمن بجده، وصدقه في اﻷمور، خاصة منها اللتي تمت إلى الله بصلة، وبين تصديق هذا، وتكذيب ذاك، اتخذ قراره ليفاجئ الجميع برحلة إلى الله ورسوله، بلا زاد ولا راحلة.

كان عالي الهمة، قوي العزيمة، مؤمنا بنفسه، واثقا من إيمانه ، صادقا مع الله ومع نفسه، كان زاهدا في كل شيئ، حتى أنه لم يعد العدة اللازمة لرحلة بحجم تللك التي كان قد عزم عليها، فلم يطلب المساعدة من أحد، ولم يدبر لها تدبيرا، ولم يتخذ لها ذخرا مع أن نوعها من الرحلات، يحتاج إلى تخطيط ،و تفكير ،و تدبير، وتمويل، فعزم على المضي قدما، متمسكا، ومعولا على خير ما يعول عليه، وهو القرآن، فكان لايفارقه في أي زمان ومكان، مواظبا على تلاوته العطرة، فحسبه ذخرا ورفيقا من أحسن الرفقاء.

إنطلق الرجل تاركا وراءه كل شيء، والدته، اللتي لاتملك غيره، وعائلته، وأهله، وعشيرته، ومحبيه، وليس ذلك استخفافا، ولا تناسيا، بأنه ترك وراءه من ستحترق قلوبهم عليه كل يوم، ولكن العقيدة المتينة، والإيمان الواثق، وإدراكه أن مرضاة الله أولى من مرضاة الناس، هو مادفعه ليقرر قرارا لارجعة فيه.

كان “الديه ولد الزين” وهو من كبار التجار الموجودين في مدينة كيفة، يملك سيارات لنقل البضائع بين مالي و كيفه، فجعلها فرصة مواتية، واستغل تلك الفرصة، لتنطلق به احدى الشاحنات، اللتي كانت تحمل ركابا زنوجا، يتحدثون بلغات أجنبية، وكان هو حديثه القرآن ،ولغته القرآن، وتوارت به الشاحنة عن الأنظار، ليدخل عالما آخر غريبا عنه، لم يعهده من قبل، فكل مايعرفه فقط، هو أنه يتوجه وجهة القبلة، وأنه لا محالة واصل إليها بإذن الله، فتحدى كل ما يمكن أن يقف عائقا أمام طريقه اللتي رسمها الله أمامه، متخطيا مالي، مرورا بالنيجر، و التشاد، وصولا إلى السودان، ليعبر البحر الأحمر بعد مجهود فريد من نوعه، تخطى من خلاله كل التحديات، والعوائق، والصعوبات ،وهناك، وجد بانتظاره محمد عبد الرحمن ولد الشيباني المعروف ب”محمد منه” ، وكان أنذاك مدير اﻹذاعة في جدة، قبل أن يشغل بعد ذلك منصب وكيل وزارة اﻹعلام، في المملكة العربية السعودية، بل كان أول شنقيطي يصل إلى هذا المنصب، ،وكان معروفا بحسن معاملته، و إكرامه للجميع، خاصة عندما يتعلق الأمر بالشناقطة من أبناء بلده، بغض النظر عن الإسم و القبيلة، فكان مكانه محط رحال الجالية الموريتانية هناك, والذي علم بخبر قدوم المصطفى، وكان اﻷخير قد أرسل إليه بريدا من الحدود السودانية، عند شواطئ البحر اﻷحمر، فرد عليه بترحيب كبير، وأنه سيتكفل بكل مايلزمه ﻹكمال مابقي له من رحلته المباركة.

استضافه “محمد منه” ليقيم عنده، ويكرمه بالقرى والمودة والإحترام، فلبث معه ما شاء الله، منتظرا بفارغ الصبر فرصته التي جاء من أجلها ،وكان عليه اﻹنتظار حتى حلول موسم الحج الجديد، واللحظة اللتي كان ينتظرها، فكان مستعدا لكل شيء، مهما كلفه الثمن، ليحقق حلما طالما راوده كثيرا، وظل مصدر إلهام يطارده في كل حين.

حل موسم الحج، فكان على أتم اﻹستعداد والجاهزية، كيف لا، وقد خرج من رحم المعاناة، وخالف كل التوقعات، حتى يصل إلى هذا المكان، وهذه اللحظة بالذات، فلم يكن عليه إلا أن يذهب بشحمه ولحمه، ليؤدي فريضة الحج، فحج بيت الله الحرام ، بعد أن إعتمر، وزار قبر النبي عليه الصلاة والسلام، وهنا حقق الله رجاءه بعد كامل اﻹصرار والعزيمة، ليتم خامس أركان اﻹسلام بجدارة و إستحقاق.

أنجز المهمة، وارتاحت نفسه، وسعدت روحه، بهذا الحدث العظيم الذي طالما حلم به الرجال، فطالبه “محمد منه” بالبقاء هناك، لتعليم القرآن لكنه آثر العودة إلى أُمّيهِ، والدتِه التي لا تطيق فراقه لحظة، ووطنِه الذي نال استقلاله، وشهد تأسيس الدولة الحديثة، بعد ستين عاما من اﻹحتلال، واﻹستبداد، والطغيان ، لكنه عاش هذه الفرحة وحده، واحتفى بها وحده، ﻷنه كان مكلفا بمهمة خارج البلاد، وكانت أعظم شأنا، و أكبر قدرا، من أي شيئ آخر، فكان وطنه قبيل رحيله عنه، على أهبة الإستقلال .

عاد إلى الوطن بمشيئة الله، بعد مضي عام كامل على بدء رحلته، فعم الفرح أرجاء المنطقة، وتحدث الجميع عن معجزة من العيار الثقيل، صنعها الرجل، ملأت الدنيا وشغلت الناس، ولكنها لم تكن رحلته الوحيدة إلى الديار المقدسة ، بل إنه عاد بعد ذلك عن طريق الرحلات الجوية، عبر الطائرات فاعتمر، و حج عدة مرات، إلا أن هذه الرحلة، كانت رحلة إستثنائية بكل المقاييس.

عاد المصطفى، والعود أحمد، عاد إلى حياته الطبيعية، واستقر مع أهله، يجوبون أنحاء الركيبه ,ويتنقلون فيها بين أوديتها، وغاباتها،و مناطقها الجميلة، بين كندره الزماله، مرايات، فرع اللينه، عطف، أكرار، انداوليشه، و غيرها، قبل أن يطيب له المقام في كندرة الجديدة، والتي تبعد حوالي ستة عشر كيلومترا، عن مدينة كيفه غربا، و يستقر بها في نهاية السبعينات، فكان أول من بنى فيها دارا، قبل أن يتوافد عليه بعض أهاليه، وأخواله من اشراتيت، ليؤسسوا قرية جميلة، يشقها طريق اﻷمل، الرابط بين نواكشوط والنعمة، وأصبح يطلق عليها إسم كندره.

استقر هناك، يدرس القرآن، و يتعهد نخله، في منطقة الزينه، التي تبعد حوالي ثلاثة كيلومترات ،شرق كندره الجديدة، مشتغلا به وبمحظرته التي تداول عليها أبناء أهل المنطقة,وكان معروفا بجده في التعليم، لاتلهيه عن ذلك تجارة ولابيع, يكره الكسل وكثرة النوم، وكان “أقباده” رنانا، تكاد تسيل له الدموع، وكان إذا شرع فيه، أغمض عينيه ،ورفع رأسه إلى السماء قليلا، فيحبر القرآن تحبيرا، لروعة تجويده، وجمال نبرات صوته.

كان مشهورا بدعاء رد الضالة فكان الجميع يلتجئون إليه، فيعثرون عليها، بدون معاناة، سواء كانت ضالتهم مالا أو غيره، وشهد له بذلك الكثير, وكنت على ذلك من الشاهدين، وقد شاهدت ذلك عنده أكثر من مرة.

كان رحمه الله على معرفة باﻷنظام القرآنية، والمتشابه منه، وكان قليل الكلام بغير ذكر الله، خاصة في المساجد، حتى في آخر زمنه، و في اﻵونة اﻷخيرة، التي بدأت تشهد الكثير من المناقشات، بل وحتى المشاجرات، اللتي لاتليق بحرمة بيوت الله، فظل محافظا على هدوئه، ملتزما صمته ،قارئا كتاب الله، متمسكا بأخلاقه الحميدة، التي عهدها منه الجميع، فلذلك كان الجميع يقدرونه، و يحبونه، ويحترمونه أشد الاحترام .

وفي صيف عام 2008 تعرض لوعكة صحية، نقل إثرها إلى العاصمة انواكشوط ، وفي يوم 28 من مايو، من نفس العام، انتقل إلى الرفيق اﻷعلى، ودفن في مقبرة لكصر، التي تضم الكثير من كبار علماء البلد, أذكرمنهم: محمد يحيى ولد الشيخ الحسين الجكني، وغيره كثير، فرحمهم الله جميعا رحمة واسعة وأدخلهم فسيح جناته. قال تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)، كان رجلا صدق ما عاهد الله عليه، فقضى نحبه، بعد عمر حافل بطاعة الله .إذا رحل الرجل، ولكن هذه المرة إلى اﻷبد، رحل إلى جوار ربه، فعساه ان يجعله مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

. نعم الرجل هو الذي بالعلم يعلو والعمل

كأنه من حسنه بدر جميل مكتمل

بالحق يعلي صوته من دون خوف أو خجل

وكل وقت خاشع يتلو بصوت لايمل

ظهوره شمس علت أفوله نجم أفل

وقد مضى كأنه وميض برق مرتحل

فالمصطفى بخلقه رمز الوفا رمز الأمل

فحسبنا من مدحه : نعم الرجل نعم الرجل

نعم الرجل أنت!, ما أروعك، و ما أقسى فراقك، فلطالما شرف البلد أمثالك من الرجال.

 

 

بقلم: الناجي ولد الحسين ولد صالحي

شاهد أيضاً

بين الطوباوية والبرغماتية / الولي ولد سيدي هيبة

اثبتت دراسات قيمة أن أكثر ساكنة المعمورة جنوحا إلى السلم هم ساكنة ضفاف الأنهار، التي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *