29 أبريل 2024 , 1:21

العمق الإفريقي للمغرب…متطلبات الحاضر واحتمالات المستقبل

مقال من الأستاذ محمد الدكالي، الخبير في التنمية الدولية، والمتعلق بالعمق الاستراتيجي للمغرب.. الفرص والمخاطر. وهو مقال لشخص خَبِر البلاد الإفريقية التي زار معظم بلدانها لمرات متعددة، يتحدث بِلغة الخبير المُطلع على إفريقيا والملمّ بتفاصيل مشاكلها وقضاياها ودولها، مُقدما قراءة للعمق الإفريقي للمغرب بين الفرص المتاحة والمخاطر المحدقة

  1. احتمالات المستقبل المنظور والأبعد

يتأثر تطوير العلاقات بين المغرب وبلدان العمق الإستراتيجي بدرجة كبيرة باستقرار الأوضاع في بلدان العمق. وبين المهدّدات والفرص، يمكن للمغرب الذي تتّسم علاقاته بجميع بلدانه بعلاقات صداقة وتفاهم كبيرين ويحظى فيها بتقدير كبير، أن يبني علاقات اقتصادية وثقافية استراتيجية تفتح آفاقا كبيرة. ويمكن استشراف مستقبل هذه العلاقات الواعدة وفق احتمالات تتراوح بين غلبة المهدّدات والمخاطر، و/أو حدوث تطورات إيجابية في أوضاع العمق توفر مناخا من الاستقرار مساعدا على بناء علاقات مستقبلية جد مثمرة وحيوية لمصالح عليا للمغرب وللمنطقة.

3.1 المهدّدات

  • استحكام التدخلات الدولية والإقليمية: المؤشرات السابق ذكرها حول أوضاع بلدان العمق تشير إلى أن التنافس القوى الدولية مرشح ليستعرّ؛ فلا سياسات فرنسا يمكنها أن تسلّم للولايات المتحدة بالسيطرة على مقدّرات دول العمق، ولا هذه الأخيرة يمكنها أن تتراجع عن استراتيجيتها بالهيمنة عليه. ويبقى السؤال الكبير وهو، ماذا هي صانعة دول العمق أمام صراع الفيلين وهل تستطيع، وهي الدول الضعيفة، أن تدير سياسة متوازنة مع الطرفين بما يحقق مصالحها الوطنية بالشكل الذي يحول دون بقاءها رقما هامشيا لا حول له ولا قوة؟ فباستثناء التنسيق الحاصل بين دول الساحل فيما يتعلق بمحاربة “الإرهاب”، لم تفلح بعد في بناء تحالفات اقتصادية ذات بال فيما بينها، فهي لا تزال أسيرة السياسات النقدية لدول مجموعة الفرنك الفرنسي إلى جانب انشغالاتها بأولوياتها الداخلية

  • تفاقم الصراعات الإثنية والسياسية وتجذير النزعات الانفصالية: وهو من أكبر المهدّدات لمستقبل التنمية الاجتماعية والاقتصادي لدول العمق ولاستقرارها السياسي. فالتدخلات الدولية والإقليمية تفاقم الصراعات السياسية والإثنية وتؤججها بما يعني انعدام أو تضاؤل أية فرص حقيقية لخروج هذه البلدان من حالة التخلف المريع

  • استمرار السياسات الدولية لتأبيد التخلف الاجتماعي والاقتصادي في إفريقيا: هذه حقيقة واقعة، فلا الآمال الوهمية التي عقدت على شعار التعاون شمال جنوب ولا شعار التعاون جنوب جنوب والأمم المتحدة بوكالاتها الدولية العتيدة ولا “مساعدات” الوكالات التمويلية الدولية قدمت نموذجا واحدا أخذ بيد بلد واحد من دول العمق أو غيرها لمعالجة بعض مشاكلها بله للتحرّر من أغلال التخلف

هذه المهدّدات، للأسف، مستحكمة ومعقّدة ومعوّقة لأية محاولات لانعتاق دول العمق من حالة التحكّم العولمي؛ لكن لا يأس مع إرادة الشعوب، فهناك فرص حقيقية أمام بلدان العمق لتحدّد مصائرها بيدها، وتوجد حالة واسعة جدا من الوعي لدى منظمات المجتمع المدني وخريجي الجامعات فضلا عن المثقفين حول القضايا الكبيرة للقارة ولسبل التعاون البينيّ لتحقيق الانعتاق وبناء المستقبل، ولنا في أمريكا الجنوبية خير مثال

3.2-العوامل البانية

  • ظهور نخب وثقافة سياسية جديدة: يوجد تنام حقيقي للوعي السياسي في مجتمعات دول العمق وفي إفريقيا عامة والنزوع إلى تطوير بناء ديمقراطي حقيقي للمجتمع وللدولة في اتجاه التحرر من الاستبداد والتخلف والاستعمار. وكمثال على ذلك ما حدث في بوركينا فاسو عندما ثار الشارع على ديكتاتورية Compaore ثم انتفاضته على الانقلاب العسكري الذي حاول إجهاض المرحلة الانتقالية للتغيير السياسي التي تمّ التوافق عليها، واقتلاع موغابي في زمبابوي بطريقة سلمية، وتجربة الرئيس جون موكوفولي في محاربة الفساد في تانزانيا، مؤشرات على هذه التوجهات وهي بادية للعيان تماما في بلدان إفريقية عدية في شكل حركات مدنية وسياسية نشطة وبأشكال ومستويات غير مسبوقة. كما يلاحظ ظهور جيل جديد من النخب الإفريقية تمتلك ثقافة سياسية ووعيا عميقا بأوضاع بلدانها وتطلّعا قويا نحو الديمقراطية وبرؤية تزداد وضوحا حول سبل التخلص من سيطرة الاستعمار الجديد وبناء مستقبلها وكرامتها التي أهينت طويلا. (7)

  • تطوّر بناء الديمقراطية: هذا التطور في الوعي السياسي يتعين أن يفضي إلى بناء دولة المواطنة بما يعنيه من إعادة بناء أسس الدولة ومؤسساتها على أسس ديمقراطية وليس على أسس قبلية إثنية أو قبلية ولا بزرع حكام فاسدين دمويين يأتمرون بتوجيهات الشركات متعددة الجنسية.. لا يمكن استبعاد هذا السيناريو وهو بالتأكيد سيأخذ وقتا لكنه ممر إجباري. يجب ألا ننسى أن تطور الأوضاع في شمال إفريقيا وفي العالم العربي عموما، وهي تتجه نحو تغييرات عميقة في أوضاعه السياسية، بالرغم من الارتدادات السلبية التي يعرفها منذ انفجار ثورات الربيع العربي، ستؤثر بالضرورة على تطور الأوضاع السياسية في دول العمق وفي دول إفريقية أخرى في اتجاه البناء الديمقراطي للنظام السياسي ولدولة المواطنة

  • بناء تكامل إقتصادي إقليمي: بالرغم من الصراعات الدولية للاستفراد بدول العمق، توجد فرص حقيقية لبناء علاقات وتحالفات اقتصادية متدرجة في الزمان ومع وبين أطراف دول العمق، بالرغم من الغبار والمخاطر التي يثيرها صراع الفيلة؛ فالموارد والإمكانات هائلة وواعدة جدا بين دول العمق من جهة بينها وبين المغرب في مجالات الاستثمار والتبادل التجاري والثقافي، وهذا يقتضي طبعا إرادة سياسية وعملا صبورا طويل النفس

4.متطلبات تعزيز أدوار المغرب في عمقه الإستراتيجي

لحسن الحظ أن المغرب منخرط أصلا في هذا التوجه وهو في الوضع الأنسب للقيام بدور القاطرة عبر تطوير سياساته لاستهداف بناء عمقه الاستراتيجي خلال العقدين المقبلين، وهو يتوفر على جملة من المقوّمات التي تمكنه من تطوير سياساته لبناء هذا العمق. فمن جهة، يمثل حالة نموذجية لتثبيت وتعزيز الاستقرار في اتجاه استكمال البناء الديمقراطي وإيجاد مناخ من الحريات العامة وتعاظم ثقافة وقناعات التوافق والمساءلة الاجتماعية والاحتكام إلى قواعد المشاركة السياسية.. على المستوى الاقتصادي نجح كذلك في تحقيق نتائج إيجابية وبشكل مطّرد في تنمية اقتصادياته، وكذلك بالنسبة لمعالجة القضايا الشائكة كمسألة التطرف ومهدّدات الوحدة الترابية (الاستقلال الذاتي للأقاليم الجنوبية وتطوير نظام الجهوية) وصهر عناصر الهوية الوطنية في كلّ متكامل ومنسجم (إدماج اللغة الأمازيغية)، فضلا عن سياساته بتخصيص آلاف المنح لإعداد وتكوين الأطر الإفريقية. كل هذه النجاحات هي عناوين بارزة للأدوار البانية التي يمكن للمغرب أن يقوم بها لتعزيز جهوده لبناء عمقه الإستراتيجي

4.1 تطوير سياسات الدولة المغربية تجاه عمقها الإستراتيجي

أمام المنافسات الدولية الشرسة في مسرح العمق الإستراتيجي، والمخاطر والمهدّدات التي تكتنفه، توجد أمام المغرب فرص كبيرة لتثبيت أدواره وتأمين مصالحه حاليا ومستقبلا في هذه المنطقة الحيوية. هذا الهدف يتطلب بلورة رؤية واضحة حول ما يجب وما يمكن عمله، ورسم سياسات ذكية ومرنة عبر جهود للتخطيط والتنزيل على مستوى مؤسسات الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، وقيادة هذه الجهود وفق الرؤية الجامعة طويلة المدى لتأمين الثبات عليها بمؤشراتها المفترضة

4.2 من المستويات الأفقية إلى المستويات العمودية

من الواضح أن السياسات التي ينتهجها المغرب في إفريقيا قد شهدت تطورات مهمة، عناوينها التوسع في الشراكات في مجالات التعاون الاقتصادي والتجاري عبر أكثر من 400 اتفاقية مبرمة مع بلدان عدّة في دول الساحل وغرب إفريقيا وإفريقيا الاستوائية خلال الزيارات الملكية لهذه البلدان، وتطوير التعاون ليتعدى مجالات الاستثمار والتبادل التجاري كصيغ تقليدية محدودة التأثير والأثر نسبيا، إلى تعاون مؤسساتي أكثر متانة في مجالات حيوية في عالم المال والبنيات التحتية والاتصالات والصناعة وبناء القدرات المؤسسية فضلا عن الزيادة في حجم التجارة البينية

وهنا يمكن سوق ملاحظة مهمة جدا تتعلق بالطابع المتوازن والمرن لهذه التوجهات الجديدة للمغرب تجاه إفريقيا، إذ ليس خافيا أن هذه التوجهات هي وثيقة الصلة بشراكات ذات طابع استراتيجي مع الولايات المتحدة في إفريقيا ومع فرنسا كشريك تقليدي. هذه المرونة والتوازن يشكلان مؤشرا مهما على قدرة المغرب على رسم سياسات محسوبة لتحقيق مصالحه الوطنية مع الاحتفاظ بعلاقات إيجابية ومتوازنة مع الأطراف الدولية المعنية

من جانب آخر، تركّز هذه السياسات المغربية على المستويات الأفقية في علاقاته بالدول الإفريقية، أي على مستوى الدول والحكومات، وهذا مسلك طبيعي للدخول إلى البيوت من أبوابها. لكن النفاذ إلى العمق لبناء المصالح المشتركة وبشكل متين ومستدام طويل الأجل يتطلب عملا دؤوبا ومؤثرا وبشكل خاص في دول العمق على المستويات العمودية، أي في المجالات الاجتماعية والثقافية بتخصيص أكبر قدر ممكن من الموارد لتقديم الدعم في مجالات التعليم والصحة والتكوين المهني والطفولة وتنمية المرأة. وليس المجال الثقافي بأقل أهمية من المجال الاجتماعي.

4.3 تطوير الدعم للمجتمعات

تشير تقارير المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة إلى أن حوالي 3 ملايين طفل في المنطقة الواقعة جنوب الصحراء الكبرى يعانون من سوء التغذية المزمن (mal nutrition aigue) التي تترك آثارا وخيمة على النمو العقلي والجسدي للأطفال نتيجة للجفاف الذي يضرب المنطقة دوريا كل سنتين أو ثلاث، ومن أصل حوالي 358.000 امرأة حامل تتوفى أثناء الوضع في العالم، ثلاثة أخماس هذا العدد يحدث في هذه المنطقة لوحدها، أي حوالي 204.000 حالة وفاة أثناء الوضع (8)

وبالنسبة إلى أعداد الجوعي، فالمؤشرات مرعبة كذلك، فقد بلغ تقدير عددهم الإجمالي في العالم حوالي 795 مليونا من أصل 7.3 مليار نفس (2012)، بلغت أعدادهم في إفريقيا كإجمالي وفي المنطقة الواقعة جنوب الصحراء كما يلي:

توزيع خريطة الجوع في العالم وفي إفريقيا (9)

المناطق 1990 (عدد إجمالي) 1990 (%) 2014 (عدد إجمالي) 2014 (%)

العالم 1,010.6 (مليار) 18.6 794.6 (مليون) 10.9

إفريقيا 181.7 (مليون) 27.6 232.5 (مليون) 20.0

جنوب الصحراء 175.7 (مليون) 33.2 220 (مليون) 23.2

وبالنسبة للتعليم، لا يتمكن 380.000 طفل وطفلة تتراوح أعمارهم بين 7 سنوات و15 سنة من الذهاب إلى المدرسة في شمالي مالي لوحدها، وحوالي 1.4 مليون طفل يعانون سلبيا من تأثيرات الأوضاع الداخلية على تعليمهم (10).

ووفقا لمؤشرات أخرى يمكن إدراك حجم المعاناة والحرمان الهائلين الذين تعاني منها مجتمعات بلدان العمق

البلدان الحصول على الماء الشروب % معرفة القراءة والكتابة %

15-24عاما (2008-2012) متابعة التعليم الايتدائي% (الصافي-2008/2012) متابعة النعليم الثانوي % (الصافي-2008/2012)

نساء رجال إناث ذكور إناث ذكور

النيجر 50.3 23.2 52.4 44.1 31 8.4 13.4

مالي 65.4 38.8 56 54.6 60.2 23.1 36

موريالتيا 49.6 (2011) 66.2 71.7 – – 22 26

السنغال 73.4 56.2 74.2 63.4 59.6 32.3 34.9

تشاد 50.2 42.2 53.6 48.4 55 11.6 22

غينيا 73.6 21.8 37.6 47.7 54.9 17.4 26.5

(المصدر: http://www.unicef.org/statistics/index_52749.html – تاريخ الاستشارة 23/12/2015)

هذه مجرد “عينات” للمشكلات الاجتماعية المريعة التي تعاني منها بلدان العمق، وهذا يعني أن أمام المغرب مسؤوليات كبيرة لتقديم الدعم لإخوانه في هذه البلدان كخيار استراتيجي وليس موسمي أو موضعي

قد يقول قائل إن هذه المشكلات كبيرة ومزمنة ومعقدة ولا قبل للمغرب بها. هذه نظرة محدودة للموضوع. هناك أكثر من مقاربة واقعية للتعامل مع هذا التحدي. يجب ألا ننسى أن الأمر يتعلق ببناء عوامل تأمين مصالح وطنية مستقبلية كبيرة في عمق حساس يعجّ بالمتنافسين الدوليين والإقليميين، ولا يصحّ إغفال ضرورة الانخراط طويل المدى في تثبيت أقدام المغرب في عمقه الاستراتيجي. توجد فرص كبيرة للمساهمة النشطة والفعالة في حل المشكلات الاجتماعية في هذه البلدان عبر بناء الشراكات متعددة الأطراف بين المغرب من جهة ودول الخليج، والبنك الإسلامي للتنمية، والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، والمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم، والوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة والبنك الإفريقي للتنمية، وتركيا والمجموعة الأوروبية والبنك الدولي وفرنسا والولايات المتحدة وكندا والمنظمات غير الحكومية الدولية.. إلخ، كل هذه الأطراف لها برامج للمساعدات موجهة إلى هذه البلدان وإلى إفريقيا عموما، ولا شئ يحول دون بناء شراكات ثنائية و/أو متعددة الأطراف لإعداد وتنفيذ برامج للتنمية الاجتماعية والثقافية والإقتصادية في بلدان العمق. إن تبني مثل هذا التوجه من لدن المغرب، كروافع قوية، سيتيح له ترسيخ مكانته وتثبيت حضوره في عمق مجتمعات هذه البلدان ويجعل صورته وصوته أقوى حضورا وتأثيرا. وفي واقع الأمر، صارت مثل هذه السياسات تقليدية في الممارسات الدولية الهادفة إلى تثبيت وتأمين وتوسيع المصالح

4.5 بناء العلاقات الثقافية: اللغة العربية كأساس

فقط أولئك الذين زاروا بلدانا إفريقية، وتوغلوا في أريافها ودواخل مجتمعاتها وقبائلها، يدركون مقدارالحب العارم الذي يكنّه الأفارقة إلى حدّ يكاد يبلغ حدّ التقديس ومن كل الفئات الاجتماعية للغة العربية. وبقدر ما يتعجب الزائر من حرص الأفارقة الشديد على تعليم أبناءهم وبناتهم لها، في كل مكان، في المدن وفي أحيائها الهامشية وفي القرى النائية، بقدر ما يتفطّر قلبه للإمكانات البسيطة وللظروف شبه البدائية التي تدرّس فيها اللغة العربية مبادئ الإسلام خاصة في المناطق الريفية، فالأفارقة يعتبرون أن مثل هذا التعليم هو من بين أهم أولوياتهم

ولتصحيح الصورة، توجد في البلدان الإفريقية، وخاصة في دول العمق وفي كل مكان منها، آلاف المدارس ومراكز التعليم العربي والإسلامي إن بأشكاله الحديثة نسبيا أو بأشكال تقليدية من حيث المحتوى التعليمي وطرائق التعليم. وهي في أغلبها الأعم تؤسس وتدار بالديناميكية الذاتية للأفارقة؛ لكنها تتعرض لحرب شرسة من عدة أطراف بواسطة التهميش والتضييق والحرمان من الإمكانات

ومن المفارقات ذات الدلالة أنه بالرغم من هذا الاستهداف للغة العربية وللتعليم الإسلامي في إفريقيا، فقد اضطرت حكومات عدد من البلدان الإفريقية ومنذ سنوات طويلة إلى أن تعترف بقطاع التعليم الإسلامي كقطاع تعليمي معترف به ضمن النظام التعليمي العام للدولة (السنغال، غينيا، مالي، النيجر، تشاد) وفي بلدان أخرى نجحت النخب التعليمية المسلمة في انتزاع اعتراف الدولة بالمدارس العربية الإسلامية وبشهاداتها وبحق تلامذتها في التقدم للاختبارات العامة في الشهادات الابتدائية والمتوسطة والثانوية (سيراليون وساحل العاج وغانا وكينيا ويوغاندا مثلا..)

كما سعت نخب مثقفة إفريقية إلى تأسيس أقسام للغة العربية في بعض الجامعات (أذكر منها مالي والنيجر وتشاد والسنغال وغينيا)؛ لكنها توجد في وضعية مزرية من حيث الإمكانات وتعاني هي الأخرى من التهميش التام بدعوى شحّ الموارد

هذا المجال إذن من المجالات الحيوية ذات الأهمية الفائقة التي يمكن للمغرب أن يسهم فيها بشكل فعّال. وإلى جانب الدولة، يمكن للجامعات المغربية، بحكم ما لها اختصاصات وصلاحيات موسّعة، أن تقوم بواجباتها في هذا المجال

4.6 الغيبة الكبرى لأدوار منظمات المجتمع المدني المغربي

لا يعود بناء العمق الإستراتيجي الإفريقي للمغرب لمسؤوليات الدولة المغربية لوحدها، بل لمنظمات المجتمع المدني المغربية أدوار جد مهمة، فباستثناء بعض المبادرات المحدودة التي قامت بها بعض الجمعيات الطبية المغربية التي نفذت أنشطة مقدّرة في مالي والنيجرفي مجال الرعاية الطبية، يلاحظ الغياب شبه التام لأدوار منظمات المجتمع المدني المغربي في بلدان العمق، وكأنها منطقة جغرافية بعيدة أو غريبة بينما يتعلق الأمر بالجيران

يمكن لهذه المنظمات أن تقوم بدور متميز وداعم في بناء موقع ومكانة المغرب في حزام العمق. فمن التقاليد الراسخة لدى جميع الدول التي تعمل في مجالات التعاون الدولي الاعتماد على منظمات المجتمع المدني في بلدانها، وفق سياسات وبرامج متطورة للشراكات التنفيذية (partenariat executif) لتنفيذ جزء مهم من برامجها وشاريعها الموجهة إلى البلدان المستهدفة في إستراتيجياتها للتعاون الدولي؛ فالمنظمات غير الحكومية تتمتع بميزات قدرتها على العمل المباشر والسريع وهي غير مثقلة بالاعتبارات الرسمية وبالروتين البيروقراطي، كما أنها مهيأة للعمل الميداني والتعامل المرن مع المجتمعات المحلية ومع قياداتها، فضلا عن خاصية تقليل التكاليف بالمقارنة مع المؤسسات الرسمية ومع القطاع الخاص

وبالنسبة إلى هذا الأخير، يفترض أن تتبنى الدولة المغربية سياسات خاصة لهدف تشجيع هذا القطاع على المساهمة في البرامج والمشاريع بالتمويل والخبرة وفق معايير وآليات صارت معروفة ومتعارف عليها، لضمان الحكامة الجيدة والمهنية في جميع مراحل تدبير الشراكات التنفيذية. وفي إطار الأدوار التي أناطها دستور 2011 بمنظمات المجتمع المدني، يتعين سنّ التشريعات اللازمة، لتأطير الشراكات متعددة المستويات والأطراف بين الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص والجماعات المحلية لتعظيم فرص التعاون مع بلدان العمق لصالح المجتمعات المحلية. وتوجد تجارب دولية عديدة في هذا المجال كإعفاء المساهمات التمويلية لشركات القطاع الخاص الموجهة للأنشطة التنموية لصالح المجتمعات المحتاجة من الضرائب وأنماط أخرى من التسهيلات والتحفيزات مؤطّرة بنصوص قانونية ولوائح وأنظمة وإجراءات واضحة وكلها ترمي إلى تسهيل وتوسيع مجالات هذه الشراكات التنفيذية

ملخص تنفيذي

تتعدى العلاقات المغربية الإفريقية بكثير مجرد تأمين وتوسيع دوائر المصالح السياسية والاقتصادية والتجارية بالمعنى التقليدي، فموقع وأدوار المغرب في التاريخ والجغرافيا تحتم عليه بناء عمق استراتيجي طويل المدى في الحزام الممتد من الواجهة الأطلسية (مويتانيا ، السنغال وغينيا) إلى البحر الأحمر (السودان)

فالمغرب يتوفر على مقومات تاريخية وسياسية وثقافية واقتصادية مهمة في هذا الحزام، والفرص المتاحة لبناء موقعه ومكانته ومصالحه الكبيرة في هذا العمق متوافرة وهي جدّ واعدة، وكل هذه الفرص والمقومات تشكّل روافع ممتازة يمكنها، إن أُحسِن التخطيط لها واستثمرت كما يجب، أن تسهم في تحقيق طموح المغرب ليصبح قوة اقتصادية وسياسية رئيسية في القارة الإفريقية

وإلى جانب هذه الفرص، توجد مهدّدات ومخاطر لا يجب التهوين من شأنها، بحيث يمكن أن تتحول معها منطقة العمق التي تعاني من أقدار متفاوتة من عدم الاستقرار ومن التخلف الاقتصادي والاجتماعي إلى منطقة ممزقة حافلة بالصراعات الخطيرة، بحيث لا يمكن الزعم بأن المغرب سيبقى بعيدا عن شظاياها وآثارها

وتعود هذه المخاطر إلى التأجيج المتعمد (volontariste) للصراعات المحلية والإقليمية الناجمة عن التباينات الإثنية والسياسية والاجتماعية التي تطبع أوضاع بلدان العمق، وهي غير منفصلة عن الصراعات بين القوى الدولية المتنافسة بشراسة للسيطرة على المقدرات الهائلة للقارة بشكل عام، وفي دول العمق الاستراتيجي بشكل خاص

وقد أثبت المغرب، في السنوات العشر الأخيرة، أن باستطاعته أن يؤمّن مواقعه ومصالحه ويوسعها باطراد في بلدان جنوب الصحراء وغرب إفريقيا والمنطقة الاستوائية الغربية، عبر سياسات مرنة محسوبة ونشطة، بالرغم من أجواء الصراع والتنافس المحتدم بين قوى دولية وإقليمية؛ وهو مرشح ومدعوّ لكي يقوم بأدوار أكثر فاعلية وتأثيرا لبناء الأمن والسلام والاستقرار والتنمية في إفريقيا

ولاستكمال هذه التوجهات والاختراقات الناجحة، هناك حاجة ماسة للتركيز أيضا على دول العمق إلى جانب غرب القارة ومنطقتها الاستوائية، بالاستفادة من المقومات الكبيرة التي يتوفر عليها المغرب، فإلى جانب السياسات الموجهة على المستويات الأفقية الرسمية، يتعين إعطاء الاهتمام اللازم بالسياسات العمودية الموجهة إلى العمق المجتمعي في بلدان هذه المنطقة الحيوية عبر شراكات دولية ذكية لتنفيذ برامج ومشاريع تنموية وثقافية نشطة طويلة النفس، ويمكن لمنظمات المجتمع المدني المغربية أن تقوم بدور مؤثر لا يستهان به في هذا الاتجاه

الهوامش:

(7) يعتقد الخبير الفرنسي Christian Coulon من المركز الوطني للبحث العلمي (CNRS) والمدير المشارك في مركز دراسات إفريقيا السوداء (CEAN) أن الأسلام يشكّل الآن رافعة محورية في صياغة توجهات جديدة لدى نخب وقواعد شعبية وفقا للمبادئ والقيم الإسلامية للانعتاق السياسي ولبناء أنظمة سياسية واجتماعية عادلة بعد إفلاس النخب المتغرّبة التي حكمت بعد الاستقلال وخيبة الأمل في الخيارات العلمانية واليسارية وبعد تفاقم حالة التخلف والدكتاتورية والتبعية الكاملة للاستعمار الجديد. ينظر كتابه: Les musulmans et le pouvoir en Afrique noire: Religion et contre culture – Editions Karthala – Nouvelle edition revue et mise a jour – 1988

(8) تقرير مشترك لمنظمة الصحة العالمية والمنظمة العالمية للطفولة والبنك الدولي – تقديرات عن السنوات 1990/2008 – الموقع الرسمي لمنظمة الصحة العالمية (تاريخ الاستشارة 23/12/2015)

(10) تقرير للمنظمة العالمية للطفولة بتاريخ 18/12/2015- الموقع الرسمي لـ UNICEF (تاريخ الاستشارة 23/12/2015)

محمد الدكالي

 ورقة قدمها الخبير، في الأصل، ضمن ندوة نظمها “مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية” بمدينة وجدة

شاهد أيضاً

تواصل والخيارات الصعبة!محمد فاضل ولد المختار

تتجه الأنظار حاليا إلى موقف حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية “تواصل” من الانتخابات القادمة، بوصفه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *