28 أبريل 2024 , 22:55

المحافظون الجدد: من الفارابي وأدورد غـبن إلى نهاية التاريخ … (1)

1

د. محمد بدي ابنو

مدير معهد الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل

ـ1ـ

ما هو الطموح الشخصي والشغف الأساسي لليو ستراوس ؟

كان يحلُم أن يقضي حياتَه منكبًا على شيئين: تربية الأرانب الفلامانكية الضخمة وقراءة فلاطون. هذه على الأقلّ هي الصورة التي أرادتْ ابنتُه جَنِي ستراوس اكْلي أنْ ترسم له في مقال تحت عنوان “ليو ستراوس الحقيقي”. نشرَتْه في نيويورك تايمز 7 يونيو 2003 في أوج أحداث غزو العراق والجدل السياسي المحايث له. وهي بالتأكيد صورة تختلف عن تلك التي يمكن أن نجد مثلا في مقال توني بيبرت اللاذع والذي عنونه “مملكة سترواس السرية”(إكزكتيف أنتلجنس رفيو، 18 ابريل 2003). ستراوس اكْلي تريد حسب ما قالتْ في نصّها هذا أن تردّ على “المقالات الإخبارية الأخيرة التي صورتْ والدي، ليو ستراوس، باعتباره العقل المدبر وراء منظري المحافظين الجدد الذين يسيطرون على السياسة الخارجية للولايات المتحدة”. وعلى سبيل المثال كان جزء من النقاش يتعلّقُ بـ”الكذب النبيل” كمفهوم “استراوسي” (سنعود لهذا الموضوع لاحقا). فقد نُسبَ إلى بعض المحافظين الجدد ـ كارفينغ كرستل ـ أن اختلاقهم لقصة أسلحة الدمار الشامل كمبرر رئيس لغزو العراق يستند “أخلاقيا” على هذ المفهوم. وعموم الاعتراضات الطريفة والساذجة ـ في معطاها المباشر على الأقلّ ـ التي قدمّتهْا ابنة استراوس بالتبني دالّة على المسافات الملتوية التي عبرتْها إيديولوحيا المحافظين الجدد وهي تتشكّل. فالفيلسوف ليو ستراوس هو الذي مثّلَ كما هو معروف المرجعية النظرية المركزية التي يحيل إليها معظم إن لم يكن كلّ الذين لعبوا دورا في تيار المحافظين الجدد.

ـ2ـ

جًنِي ستراوس اكْلي تحمل اسم خالها ليو ستراوس وتسميه “أبي” لأنه تبناها بعد أن فقدتْ أبويها وهي في عمر الأربع سنوات. استقدمَها خالها من القاهرة حيث ولدتْ إلى نيويورك حيث كان يقيم حينها. وهي حاليا أستاذة الشعر اليوناني القديم في جامعة فرجينيا. جني ستراوس هي ابنة العالم الشهير بول كراوس الذي بدأ حياته العلمية تحت إشراف لوي ماسينيون ( نشر معه كتاب “أخبار الحلاج”). وقدّمَ أيضا تحتَ إشرافه أطروحتَه عن جابر ابن حيان وترجم إلى الفرنسية عددا من رسائل الأخير. ثمّ أصبح أستاذا في جامعة القاهرة وأشرف فيها رفقة الكسندر كويري وطه حسين على مناقشة أطروحة دكتوراه عبد الرحمن بدوي “الزمان الوجودي”. مسار جني سترواس بدأ بكثير من الألم. أمها بتينا سترواس، شقيقة ليو ستروس، توفيتْ مع ولادتها سنة 1941 في القاهرة. بعد ذلك تزوج بول كراوس بدورثي متلسكي مؤسسة الجامعة العبرية في القدس ومختصة في الأدبين العربي والانجليزي (ناشطة مركزية في الحركة الصهيونية درَستْ في لندن رفقة غولدا مايير ولعبتْ أدوارا سياسية متعددة إلى جنب الأخيرة ودرّستْ خلال عقود في جامعتى كالفورنيا ويال إلى وفاتها سنة 2001). مباشرة بعد هذا الزواج عَرفَ بول كراوس مشاكل غامضة مع الجامعة العبرية في القدس (الرواية الشائعة هي أنها بسبب محاضرة له عن تاريخية التوراة). وعاد إلى القاهرة وعُثر عليه ميتا (يقال إنه انتحر، وثمّة فرضيات إضافية). حينها كان خالها ـ الذي سيتباها بعد ذلك بسنيتن ـ ليو ستراوس قد استقرّ في الولايات المتحدة (حصل على الجنسية الأمريكية وأصبح أستاذا في نيويورك ولاحقا شيكاغو).

ـ3ـ

كان آلن بلوم أحد تلامة ليو سترواس. وأصبح أستاذا في جامعة كورنل أواخر الستينات. درَّس حينها الفلسفة السياسية في هذه الجامعة التي أمضى فيها فوكوياما وجيمس نكولس وبول وولفوويتز (والد الأخير كان أيضا يعمل أستاذا فيها) سنواتهم الأولى كطلبة. يبدو أن فرانسيس فوكوياما تعرّف في البداية على آلكسندر كوجيف وأطروحاته حول هيغل ونهاية التاريخ من خلال دروس آلن بلوم. فقد أرسل ليو ستراوس تلميذه بلوم إلى صديقه كوجيف في باريس لإكمال دراسته. بول وولفوفيتز كان يقيم في نفس السكن الجامعي الذي يقيم فيه أستاذه آلن بلوم. ولكن ما الذي يمكن أن تعنيه نهاية التاريخ بالنسبة لشاب في بداياته كفوكوياما يكتشف ربما باستهجان ـ كما سيدعي لا حقا ـ الحركات الطلابية والمدنية والثقافة المضادة التي طبعتْ تلك الفترة؟ آلن بلوم هو الذي دفع فوكوياما إلى الانتقال إلى باريس لمتابعة محاضرات جاك دريدا ورولان بارت قبل أن يعود إلى دراسة العلوم السياسية حيث سيلتحق بهرفارد رفقة سمويل هنتغتون.

ـ4ـ

يُعتبر غالبا أن المحافظة الجديدة عنيتْ في تجلياتها الأولى أساسا ردّة فعل ـ مندفعة علنا نحو اليمين الجديد ـ على هذا السياق الحركي الذي دشنتْه أواخر الستينات. وطبعا يُنظر إلى صدور كتاب دانييل بيل “نهاية الإيديولوجيا” (أطروحة دكتورا في جامعة كولومبيا سنة 1960) وإنشاء الأخير بالشراكة مع ارفينغ كرستل مجلة “المصلحة العامة” (لاحقا سيصبح فوكياما وهنتغتون من بين كتاب هذه المجلة) كخطوتين مؤسِّستين للمحافظين الجدد. وإلى جانب “المصلحة العامة” سيُصدِر ارفينغ كرستل ابتداء من أواسط الثمانينات مجلة “المصلحة الوطنية” لـ”علاج السياسة الخارجية بالمعنى الواسع”. لنتذكّر هنا أنَّ هذه المجلة هي التي نشرتْ سنة 1989 مقال فوكوياما عن “نهاية التاريخ” الذي سينجبُ، بعد ما تلى صدورَه من ضخ دعائي مفرط، كتابَ “نهاية التاريخ والانسان الأخير” (1992).

ـ5ـ

ليو ستراوس ككثيرين من أبرز معاصريه في الجامعات الأمريكية قادم من ألمانيا. خلال وبعد الحرب العالمية الأولى تكوّنَ في عدد من الجامعات الألمانية الرئيسة وفيها تابع محاضرات كاسيرير (أستاذه في الدكتوراه) وهايدغر وهسيرل وجاسبير. وربطتْه مرحليا صداقة فكرية قوية مع كارل شميت (ستصبح طبعا مفارقية لاحقا). كما عرف عن قرب أستاذ كاسيرير ـ فيلسوف الكانتية الجديدة في مربورغ ـ هيرمن كوهين. واطّلع بهذه المناسبة على العمل البحثي الذي كان الأخير يشرفُ عليه في التراث اليهودي. كان كوهين مهتما بالدراسات اليهودية وفي نفس الوقت مناهضا بقوة للصهيونية. أما ستراوس فقد انضمّ في الفترة نفسها للحركة الصهيونية الألمانية. وفيها صادق عددًا من الطلبة الذين سيحظون بمواقع متميزة في الجامعات الألمانية والبريطانية والأمريكية في النصف الثاني من القرن العشرين رغم الخلافات الشديدة التي ستشتدّ بينهم خصوصا بعد النكبة ونشوء اسرائيل (حنه أرندت، هانس جوناس، جيكوب كلاين، نوربرت الياس، غدامير إلخ). في أوساط الحركة الصهيونية تعرّف أيضا على بول كراوس الذي جمعتْه به الصداقة والعلاقات العائلية التي ذكّرنا بها في بداية هذا الحديث. كما تعرَّفَ الاثنان على شلومو بينيس (الذي سيُعرف ابتداء من الستينات في العالم لانجلوساكسوني بترجمته، هو وستراوس لكتاب ميمونيد أو موسى بن ميمون: دلال الحائرين). كان شلومو بينيس حينها يدْرس الفلسفة والعربية ولغات شرقية أخرى في برلين. في نفس الفترة، أي في العشرينات تعرّفوا ـ ليو ستراوس وبول كراوس وشلومو بينيس ـ على ألكسندر كوجيف. ومن المؤكد أن هاذه الصداقات الثلاث لعبتْ دورا كبيرا في اهتمام استراوس بالفلسفة العربية، الإسلامية واليهودية. وبشكل خاص بفيلسوفين سيكون لهما دور محوري في أعماله: موسى ابن ميمون والفارابي.

ـ6ـ

عشية صعود النازية سيترك بول كراوس وشلومو بينيس وليو ستراوس ككثيرين غيرهم ألمانيا. استقر الثلاثة في باريس. الكسندر كوجيف وصل قبلهما إلى العاصمة الفرنسية. وبحكم انتمائه إلى عائلة روسية ثرية فقد عاش لفترة من مدخراته قبل أن يُفلس ويضطر للتدريس. سيستفيد من دعم مؤرخ العلوم والأديان الكسندر كويري (أيضا من أصل روسي)، الذي ألْحقَه بكرسيه في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا. ورغم أنه يقال عن محاضرات كوجيف التي استمرتْ أغلب عقد الثلاثينات إنّها لم تجذب جمهورا واسعا من طلبة الحي اللاتيني فإنه كان لها تأثير كبير على الجيل الذي سيهمن في الساحة الثقافية والأكاديمية الفرنسية بعد الحرب الكونية الثانية. فقد كان يتابعها مثلا : ريمون آرون، جورج باتاي، جاك لاكان، موريس مرلوبونتي، ريمون كنو، آنري كوربن، جان إيبوليت، ميشيل لريس إلخ.

حين بعث ليو ستراوس تلميذه آلن بلوم إلى باريس سنة 1953 كان أغلب هؤلاء قد احتلوا مواقع في الساحة الفكرية. وكانت محاضرات كوجيف قد توقفتْ منذ عقد ونصف. ولكن بحكم علاقة ستروس وكوجيف فقد مَنح الأخيرُ بلوم على ما يبدو نوعا من الدروس الخصوصية. وساعد على ذلك أن الشاعر والروائي المابعد سريالي ريمون كنو كان قد نشر صياغتَه الخاصة لدروس كوجيف التي كان من روادها في الثلاثينات (هذه الصياغة هي التي سيترجمها لاحقا إلى الانجليزية جيمس نكولس تحت إشراف آلن بلوم وبطلب من إرفينغ كريستل، فلم ينشر كوجيف محاضراته بشكل مكتوب).

شيء ما في سلوك آلن بلوم خلال حرب الخليج لسنة 1991 يجد ربما تفسيره هنا. كان بلوم غاضبا وهوعلى فراش الموت من إعلان بوش الأب عن وقف الحرب. ويقال إنه ردّ على تلميذه القديم بول وولفوفيتز حين اتصل به الأخير من البيت الأبيض ليبلغه بالقرار قبل إعلانه : أنتم جبناء !

يتواصل ـ

شاهد أيضاً

نواكشوط: تنظيم ندوة علمية حول دور العلماء الشناقطة في تعزيز العلاقات الموريتانية والكويتية

نظمت الجمعية الموريتانية لخريجي دولة الكويت مساء أمس  بنواكشوط، ندوة ثقافية تحت عنوان: ” دور …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *