الدكتور محمد عبدى أنين السياق ودمع النسق بقلم / محمد أبحيدا الشريف

نسق

قال مكسيم غوركى “من العظماء من يشعر المرء فى حضرتهم بأنه صغير ولكن العظيم بحق هو الذى يشعر الجميع فى حضرته بأنهم عظماء”.
هكذا كان مشهد الحضور فى رحاب أبى عبادة رحمه الله، لقد كان عظيما حقا، فقد كان الشعور بعظمته ينتاب قارئه للوهلة الأولى حين لا يملك إلا دهشة الذهول والإنصياع لسطوة الحرف الصادق القابع بسلام بين دفتي أي من مصنفات أبى عبادة يرحمه الله.
ثمة تركيبة سحرية تصدر من منطقة الشعور لدى الدكتور محمد عبدى تذهب مباشرة لتفعل فعلها فى وجدان قارئه، مزيج من الصدق والفن والحس والنبل والجمال وتجلى الذات البشرية يقول لك ان من خلف تلال الأحرف تلك هو بكل بساطة انسان و انسان فقط ،أما إذا عرفته عن قرب فستخبرك حروفه ونظراته وإيحائه الجسدي وتشكيله البصرى انه انسان ولكنه انسان لك انت فقط ومن أجلك.
رحل الدكتور محمد رحمه الله عن هذه الدنيا بهدوء وشموخ وتوارى مسالما كما عاش أو كما أراد ان يعيش مدهشا حيا وتاركا لنا دهشة الموت المجرد ميتا.
رحل الدكتور محمد ولسان حالنا مشدوه يردد فى صمت لازلنا نريدك أبا عائشة لازال ثمة أمر لتفعله مازالت شقاق الطين ظمآنة لبرك الكلام وما زلنا نحمل من الأنا الكثير لنحمله اليك ونحلم به بين يديك مازالت حاجاتنا وغاياتنا وبعض آمالنا مناطة بأمل تصنعه أنت وقد فعلت لا لشيئ سوى أنه نيطت علينا وإياك نفس التمائم وأنك قد تدحرجت كبيرا من المنكب البرزخي لترسو عزيزا وتغدو منارة تلقفنا من التيه وبوصلة ترشد عيسنا البائسة، لا لشيئ سوى لسحنتنا الداكنة من وميض الشموس وحرقة الرمل والأرواح ، وأرض يباب كل شيء فيها يغرق فى الملح وينشؤ من سباخ ، لا لشيئ سوى رحم قطعناه ولؤم تحطم فوق أعتاب شموخك ، مازلنا بأوزارنا نسألك البقاء مازلنا ننفذ نحو روحك حين يسحقنا سياقك نسقا بإسم الوطن مازلنا نمارس الخداع حين نتوسل بالوطن إليك فهو المقدس الذى يسكنك وهو العظيم الذى أقصاك. وبقيت أنت الوطن المفارق للوطن السائب فى عروقك الطاهرة الوطن الذى قلدته كل الفصوص وخلعت عليه كتاب الرحيل الوطن المخدوع الذى فاته انك مفتون بالأثر.
كم تبدو الكتابة عصية عندما يتعلق الأمر بشخص مثل فقيد الأدب والإبداع والإنسانية وكم تزداد صعوبة عندما تكون إكراها فى لحظات الصدمة والذهول لم يكن محمد عبدى مجرد شاعر أو ناقد أو باحث ومخطط استراتيجى لكنه كان يتالف من أدب كما قال فرانز كافكا عن نفسه “لست أديبا لكننى أتالف من أدب”. كم يتماهى هذا الوصف مع شخص الراحل الدكتور محمد عبدى فكل ما يصدر من هذا الانسان كان يصدر عن أدب وبشتى معانى ودلالات هذه المفردة.
كلما اقتربت من شخصيته لتكتب عنه تأخذ المداخل المتفق على وجاهتها فى الإتساع فتكاد لا ترى نهاية لما ستكتب فالأبواب مشرعة أمامك لا تدرى من أيها تنفذ اليه حقا، فباب دين وورع يوصلك اليه وباب علم وأدب يوصلك اليه وباب خلق ومعرفة يوصلك اليه وباب كرم ونبل وعطاء يوصلك اليه وباب مكتب فى طابق مرتفع بلا حاجب يوصلك إليه ، وأنت فى خضم هذه الدلالات شتات تتدافع العبارات وتتكور حول نفسها أمامك لا تدرى أيها اكثر صدقا وعمقا لتعبر به عنه.
يستقبلك ابو عبادة ويفتح لك الباب بكاريزما خاصة حباه الله إياها مبتسما بنظرة تستعصى على التفسير غير انه ينقل إليك فورا شعوره بالإمتنان وكأنه يفتح لك باب قلبه لا باب بيته أو مكتبه يتساوى فى ذلك من عرف ومن لم يعرف فالجميع فى عالم الدكتور محمد على حد سواء ثم تبدأ طقوس الإحتفاء بك تعلو تدريجيا حتى الثمالة التى تفيق منها رغم بساطتك وضآلتك وقد بدأ شعور كبير بالعظمة يتسلل رويدا الى ذاتك ، يطبق عليك الإحساس بالأمان فكل شيء يبدو ميسرا هينا هكذا تخبرك عيناه وذلك الإيجاب الذى يملؤك به قبل أن تسأله مبتغاك.
تخال دار الشاعر المنفي المسكون بوطنه فى الامارات قد تم اعدادها لتكون فندقا أو نزلا أكثر من كونها سكنا عائليا لمغترب فى الخليج لا ينطبق عليه شيء من صفات المغتربين، فجلي للوهلة الأولى أن الرجل لم يكن ممن يكنزون الذهب والفضة ولم يكن يرى فى عمله المحترم وسيلة لجمع المال بل هو مصدر للإنفاق والإحسان والبذل وصناعة الحياة وقلما تجد فى من وفد الى الامارات من الموريتانيين ووجد فرصة وموطئ قدم فيها إلا وقد مر بمحطة دار أبى عبادة العامرة أو قل نزل محمد عبدى الشهير فى أبى ظبي ، لقد كان الرجل يمثل ضمانا وداعما ووسيطا للجميع حتى تستقيم أمورهم ليبدأ دورة منح وعطاء جديدة مع آخرين.
فى بعض الأحيان كان يستأجر شقة جاره المقابلة لشقته أثناء قضاء إجازته ليستقبل فيها عائلته خلال فترة الصيف حين يفد عليه أبناؤه من السعودية ، يحدث ذلك وهو يطبع كل من حوله بشعور بالإمتنان لهم كان الرجل يشعر باللذة الجامحة والرضا التام فى إسعاد الآخرين ومواساتهم.
كان محمد عبدى مسكونا بوطنه يغنيه بحب وصدق وبحرقة تجسدت فى نصوصه الشعرية من خلال ذات منعتقة ومتقدة جامحة فى جميع انشطاراتها وتجلياتها صوب رمز ثابت ـــ الوطن ـــ تقاربه وتلامسه فى ذات الوقت الذى تفارقه فراق الهارب العاشق وتكمن الثيمات المتحركة فى الحنين القلق الى الرمز المأزوم فى ذاته وفى ذات الشاعر تلميحا فى غالب الأحيان من خلال إبراز الرمز الموريتانى من خارج بنية المكان الذى يتحرك فيه فضاء الشاعر وبيئة ألفاظه الشعرية بإعتباره مهجريا، إلا أنه وظف واستدعى بيئته التى يبدو انها كانت كامنة فى ذاته الشاعرية لم تبرحها حينا ولم يجد صعوبه فى البوح بها كونها مكتنزة فى ذاته غير بعيد فأنفتحت نصوصه الشعرية على فضاء حداثي رصين أصل به الشاعر لإنتمائه الأكبر والأصغر دون نشاز بل إنه أبدع فى طرقه باب ريادة التجديد فى الخطاب الشعرى الموريتانى الحديث.
ولم يبرح الوطن ايضا مشروع الراحل محمد عبدى فى النقد الثقافى فكان مؤلفه الرائع السياق والأنساق فى الثقافة الموريتانية لا فى سواها وكان نموذجه الشعر، لم يكن ذلك إلا ضربا آخر من سطوة الإنتماء وهيمنة النسق الأصيل فى ذاته المنحازة فى مكنونها الدفين للأرض السائبة كان من الممكن أن يقدم السياق وهو المتشبع بالثقافة المشرقية والمغاربية فى نموذج من أحدهما ، كان يسعه ذلك وهو الذى كتب التفكيكات على النصوص الشعرية الاماراتية.
حدثنى رحمه الله قبل عام مضى عن مشروع كتاب يعمل عليه فى النقد الثقافى ربما كان عنوانه ( مجتمع الوفرة والندرة والنجعة موريتانيا نموذجا) وشرح مدخله الى الكتاب شرحا ينم عن عمق فى العرض والنقد والتحليل كان يتحدث عن مفهوم الحركة فى المجتمع وعلاقة مجتمع الندرة بالأرض وباعث النجعة لدى الانسان وتأثر كل قيمه الأخلاقية والاجتماعية والعقدية بإكراهات النجعة ، هاجمته اللوكيميا وصرفه صراعه معها عن حبيبته المعرفة ومعشوقه الكتاب ، كان محمد رحمه الله مدمنا للكتاب ولا شيئ سواه كان قارئا نهما وهاضما مقتدرا لما يقرأ ومنتجا عميقا حين يبحث ، كانت لديه علاقة حميمة مع الورق ورائحته فى زمن الألواح الذكية وثقافة الإجتزاء والقص واللصق ، كان لدى ابى عبادة كتاب للطائرة وآخر للقطار وثالث للمشفى كان يقرأ ليستمتع ويطوح بروحه فى فضاء الأنس بخير جليس، فى أيامه الأخيرة وحين كان المرض يشد وثاقه حوله كان يسأل عن ما يدور من ندوات فى ذكرى رحيل مالك بن نبي وماذا سيكون فى يوم اللغة ، كان يتألم فى داخله فلطالما كان هو ذاته من يصنع الحدث بإبداع واكتمال وهو المخطط الذى يعمل ثم يتلاشى عن الأنظار وقت الظهور وحين تجوب العدسات الصاخبة أروقة المعارض والمشاريع الثقافية يدرك الاماراتيون الطيبون بصماته ولسان حالهم يقول كان مشروعا ناجحا إذا كان محمد عبدى هناك، ويكتفى محمد بإبتسامته الدافئه وعبارته الدائمة “ان الأمور طيبة”.
ليس ثمة شيء أصعب من الهزيمة النفسية فى قاموس الأقوياء ولا شيء اكثر قوة وهشاشة معا من الانسان ذاك الذى انطوى فيه العالم الأكبر، لكن الموت يظل مأزقا فرديا وأمرا ممقوت الانتظار ، ترى كم من الإيمان الصرف نحتاج لكي نبقى باسمين بلا وجل والموت قريب منا ؟ ذلك تصور بديهي وخبر غير مشفر تحيلنا إليه أنباء الإصابة بالسرطان ذلك الغول البشع الذى يبدو انه لا يقرأ أو يكتب ، كم يصيبنا ذلك بالتخبط والإحباط، والرغبة فى الإستتار والتوارى غير أن أبا عائشة كان مؤمنا حقا كان صابرا حقا كانت إرادته قوية بما يكفى ليصرع اللوكيميا على مدرج الحياة لكن حكم الله كان نافذا وجسده النحيل كان أضعف من إرادته التى كانت تسع حلما مليئا بالحياة وبالأمل له للوطن وللإنسان.
كان قويا متوكلا حق التوكل قال انه لا يخاف المرض لكنه سيأخذ كل الأسباب والله لن يقضي إلا بخير كانت تلك كلماته الأخيرة التى أوغلت فى نفسى كحقنة المورفين أو أعمق كان يقول ذلك باسما يحدثك دون حديث أنه ليس بالرجل الذى يقبل حياة هو فيها سقط متاع لم يكن ليتحمل نظرة شفقة أو حتى حنو من أحد كان يعلم كم هو محبوب وكان يشفق علينا من أننا لا نملك حولا له ولا قوة.
كانت المفارقات تتوالى أمام عينيه وتأتيه لطائف وتأملات تنتهى بآية من القرآن فى كل مرة قال انه سجلها أو دونها فى تونس لكن الأمر الأشد وطأة هو وقع خبر وفاة صديقه المرحوم محمد خلف المزروعى كانت فاجعة فوق تحمله وكيف لا وهو الانسان فى حال الصحة فكيف به فى حال المرض كانت الأمور تختلط فى وعيه ، كم انت عجيب ايها الموت ؟
كان المزروعى رحمه الله يهاتفه دوما يطمئنه ويشد عزيمته ويقول له سوف تشفى وكان يرتب رحمه الله كل ما يتعلق بتكاليف استشفائه مات المزروعى فى كامل صحته وعافيته ودون مقدمات !!
يكمن الموت فى زوايا شديدة الحدة والإحكام (اذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) إن الموت منعطف لا يمكن تجاوزه أو عبوره ولا يمكن العودة منه نحو الوراء.
يموت الرجال يوميا دون أن يواريهم التراب ذلك موت من نوع آخر هو موت للقيم كما يموت الناس ويواريهم التراب لكن موت الرجال العظام هو تفسير جلي لنقص الأرض من أطرافها.
رحل الدكتور عبدى شاعر ما بعد المليون شاعر تاركا الفراغ عصيا على الملأ تاركا صبوات المداد لجموحها ونزقها تاركا السؤال لبلد المليون شاعر عن ما بعد الشاعر محمد عبدى تاركا القيم تلعن نفسها والرمل يبحث عن ريح تنثره والبحر يوشك ان يفقد جزره تاركا الحيرة تلهب داخلنا، كيف استطاع أن يكون مسالما وأن يرحل فى سلام وكم يا ترى هي نسبة إنسانيتنا أمام عظمة تساميه … رحمة الله عليك أبا عائشة ..
كتبت الرحيل لهم
هاهم يهيلون عليك التراب
يقولون مات
من للحروف اليتامى ؟
من للندى للطين
من للكلام
يقولون مات
كم عبرة نفثتها
عليك أسراب الحمام
نم بسلام
نم بسلام

محمد أبحيدا الشريف
Avnan_99@hotmail.com

شاهد أيضاً

أبعاد الخلافات بين مالي وموريتانيا

تصاعد التوتر بين مالي وموريتانيا خلال الأشهر الثلاثة الماضية، بسبب استهداف مواطنين مدنيين موريتانيين عزل في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *