28 أبريل 2024 , 4:06

قصة علاقة النهضة بأنصار الشريعة من المعاشرة إلى القطيعة : شراكة وتقاسم أدوار… / بقلم: الهاشمي الطرودي

9873 - Copieما يُشاهد بعد العملية الإرهابية في القصرين من حدّة وتشنج في الخطاب السياسي والإعلامي بين الأطراف السياسية والنقابات الأمنية التي تحمّل سياسات حركة النهضة المسؤولية الرئيسية، في التمكين للإرهاب وتمزيق المؤسسة الأمنية
وضعف أدائها وتطالب بإصلاحات جذرية تضع حدّا لما ُوصِف «بالأمن الموازي»، وتضع المؤسسة على سكّة الأمن الجمهوري، وبين قيادات حركة النهضة، وفي المقدّمة من كانوا في صدارة المسؤولية الحكومية كعلي العريض، التي تنفي عنها المسؤولية، وتدافع، بقوّة، عن سياسات الحركة في هذا المجال وتحمّل النقابات الأمنية، وما تصفه بالدولة العميقة، مسؤولية ما يجري وما جرى.
المعركة، اليوم، على أشدّها بين الطرفين، ولا يوجد حلّ وسط ، نظرا للاختلاف في التقييم وتحديد المسؤوليات والحلّ الوحيد، أمام حكومة مهدي جمعة، في هذه الظرفية الدقيقة والخطيرة، هو التحقيق الموضوعي والمستقل فيما يجري داخل المؤسسة الأمنية، سواء للوقوف على الاخلالات أو لتحديد المسؤوليات لأنه لا سبيل لاتخاذ القرارات السليمة والناجعة التي تتيح استعادة وحدة المؤسسة وترقية أدائها في غياب ذلك.
يتضح، إذن، أن تقييم سياسة النهضة، تجاه تيار السلفية الجهاديّة، وتحديدا، تنظيم «أنصار الشريعة» وأدائها في مجال مكافحة الإرهاب لن يكون دافعه، وخاصّة بالنسبة لحكومة محايدة، محاسبة النهضة، وإنما هو حاجة موضوعية يتطلبها الإصلاح، لا ذنب، طبعا، للحكومة إذا أدّت نتائج هذا التقييم إلى النيل من الرصيد السياسي للحركة أو إدانة بعض قيادييها فمصلحة البلد قبل مصالح الأحزاب.
من لا وطن له لا مشروع له
غيّرت قيادة حركة النهضة خطها السياسي، منذ لقاء باريس الذائع الصيت والتحاقها بالحوار الوطني، منذ ذلك التاريخ، وفي أعقاب محاولة جادّة لتملك حقائق الواقع الوطني والإقليمي والدولي، اكتشفت النهضة الوطن، وانخرطت في مسار التونسة وبدت تتولد لديها القناعة أنّ تونس عصيّة عن مشروع الأخونة وأنّ خصوصيات تجربتها الإصلاحية والسياسية والاجتماعية جعلت منها أمّة بذاتها، صحيح أنّ كل البلدان تبدو عصيّة عن مشروع «الأمميّة الإخوانية» فواقع عالمنا اليوم أثبت، ودون جدل، أنّ من لا وطن له لا مشروع له، لكن جدارة التجربة التاريخية التونسية ودلائل متانة رصيدها الحضاري وتأصّل مسيرتها الإصلاحية أنها فرضت، وبسرعة، نواميسها على الإسلام السياسي، طوّعتة وساعدته على التحرّر من أوهام تطويعها.
من المفترض، بعد هذا، ألاّ ترى الحركة أيّ حرج في نقد سياساتها والإقرار بأخطائها في مجال التعامل مع الظاهرة السلفية، عموما، والسلفية الجهاديّة تحديدا، إنّ اقرارها، وإن ضمنيا، بفشل «مشروع الأخونة، وبداية المسيرة الصعبة للتحوّل إلى حزب مدني وإلى جزء من النسيج السياسي الوطني تقضي بهذه المراجعة، وذلك لسبب بسيط وهو أن سياساتها تجاه المؤسسة الأمنية، أو حول كيفية التعاطي مع الارهاب كانت نتاج مشروع الأخونة،
فالإسلام السياسي الإخواني، والنهضة إحدى مفرداته، يتعاطي مع هذه الجماعات المتشدّدة من زوايا مختلفة، يتعاطى معها كحليف استراتيجي تارة وكخزان انتخابي تارة أخرى وأيضا كذراع عسكرية في وقت الشدّة وعندما يجدّ الجدّ، هذا أمر واضح ، فتنظيم «بيت المقدس» والقاعدة، وغيرها من التنظيمات الإرهابية تمارس اليوم الإرهاب بمصر نصرة للإخوان.
صحيح أن الحركات الإخوانية تعلن اليوم، وعلى رؤوس الملأ، أنها حركات معتدلة، تنبذ العنف وتؤمن بالديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن لا ينبغي أن ننسى أنها مبتكرة نظام «الجهاز الخاص» – الذي ذهب ضحيّة تصرفاته مؤسس الحركة الإمام حسن البنا – وأن الاغتيالات والانقلابات أو محاولات الانقلاب، وتشريع العنف المسلح ليست من البدع في مسيرة الأحزاب الإخوانية وتراثها: (اغتيال رئيس الوزراء النقراشي بمصر، انقلاب عمر البشير في السودان، أحداث باب سويقة في تونس، المجموعة المسلحة في تونس…).
علاقة شراكة
سياسة حركة النهضة تجاه التيار السلفي – قبل التحولات التي شهدتها مؤخرا- تتنزل في إطار هذا المنظور الإخواني، فهي ليست غريبة عن ثقافة الجماعة، بل كانت تنفيذا أمينا لاستراتيجياتها القريبة والبعيدة، وبناء على ذلك ، فإنّ نفي النهضة خلفية وأبعاد العلاقة بينها وبين التيار السلفي، بكل مدارسه بما في ذلك السلفية الجهاديّة، ضرب من التهرّب من المسؤولية واستخفاف بعقول التونسيين الذين عاينوا «قصّة الحبّ» بين الطرفين، واستمرارها حينا من الدهر..
ولذا فإنّ الأسئلة المطروحة لا تتعلّق بوجود هذه العلاقة من عدمها وإنّما بكيفيّة تجسيد هذه السياسة على أرض الواقع، ماذا استفاد «أنصار الشريعة» من هذه السياسة وماذا استفادت حركة النهضة ؟ ما هي أسباب تدهور العلاقة بينهما ؟ كيف راجعت النهضة سياساتها ؟
المشروع الباطني لحركة النهضة، الذي شرعت في انجازه حكومة الجبالي وواصلته حكومة العريض تحت عنوان الحريّة والديمقراطية ومقاومة الاستبداد والفساد، وخلف يافطة التحالف الإسلامي/العلماني كان مشروعا إخوانيا بامتياز. لقد سعى البناة، تحت إمرة رئيس الحركة، إلى تجسيد مفردات ذلك المشروع ووزعوا الأدوار فيما بينهم، حيث أعلنت الأغلبية البرلمانية، التي تهيمن عليها حركة النهضة «الجهاد» من أجل «دستور نهضوي». وكان لها ذلك فقد جاء دستور غرّة جوان دستورا نهضويا بامتياز، يجسّد ثوابت مرجعيّة النهضة ويمهّد الطريق لبناء الدولة الدينية.
وشرعت الحكومة النهضويّة، بالمقابل، في إنجاز مشروع أخونة الدولة، وهو يقوم على ركيزتين أساسيتين: أولهما الهيمنة على مفاصل الدولة والعمل التدريجي على تقويض ما يصفونه «بالدولة العميقة»، وثانيهما السعي لأسلمة المجتمع –بالمفهوم الإخواني للأسلمة – وذلك عبر تحويل الفضاء الديني إلى بوق دعاية للمشروع الإيديولوجي والسياسي للنهضويين وأداة لهدم مشاريع خصومهم السياسيين، وهي المهمّة التي تولتها ، وفي العهدين، وزارة الخادمي،
هذا المشروع الذي شرعت حكومتا النهضة في إنجازه يترجم، في العمق، ثوابت المشروع الإخواني، إنّه مقاربة، في إطار الخصوصيات التونسيّة، أو قل محاولة لتجسيد مقولة الأب المؤسس حسن البنّا «الإسلام عقيدة وشريعة، دين ودولة». وعندما نقارن هذا المشروع مع المشروع السلفي، على اختلاف مدارسه، نجد اتفاقا حول الأصول والأهداف الإستراتيجية الكبرى فكلاهما يسعى «لأسلمة « المجتمع، وكلاهما يسعى لتطبيق الشريعة، وكلاهما يحلم بعودة الخلافة.
لكن هناك اختلاف عميق بين الطرفين في التكتيكات، أي في كيفية الوصول إلى تلك الأهداف الجامعة، لا سيّما مع تيار «أنصار الشريعة» فهؤلاء يعتبرون الديمقراطية كفرا ويسعون، دون إبطاء، إلى تطبيق الشريعة، ويرون ضرورة الانتقال من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الجهاد إذا استعصى نشر الدعوة وحصل التمكين.
لكن رغم الخلافات العميقة، حول كيفية إعادة بناء الدولة الإسلامية وتجسيد حكم الخلافة وتطبيق الشريعة والجهاد في دار الإسلام، فهناك مساحات التقاء بين الطرفين يدفع إليها الانتماء لنفس العائلة الإيديولوجية والسياسية كما تدفع إليها وحدة الأهداف الاستراتيجية..
وفي إطار هذه القواسم المشتركة يتنزّل، ما ورد في الفيديو الذائع الصيت للشيخ راشد الغنوشي، لم يتحدّث الشيخ، فحسب، عن سياسة أخونة الدولة وسبل بنائها «الأمن غير مضمون، والجيش غير مضمون والإدارة غير مضمونة» وإنما دعا أيضا إلى تقاسم الأدوار بين حركته وبين التيار السلفي وذلك عندما دعا السلفيين إلى استثمار الفضاء الديني، ببثّ الدعاة وبعث الفضائيات والإذاعات وتكوين الجمعيات الخيريّة، كان تقسيما دقيقا وواضحا، نحن سنتكفّل بشأن الدولة وأنتم بشأن المجتمع، وبتظافر جهود الطرفين سنوفّر البيئة الملائمة لتطبيق الشريعة وسنصنع موازين القوى التي تجعل تطبيقها ميسورا ومقبولا، والدستور بشكله الحالي وبفصله الأوّل يتيح لنا هذا التأويل، فالقضيّة هي، في نهاية المطاف، قضيّة موازين قوى.
ولذا فإنّ استعمال كلمة «تساهل» لتوصيف العلاقة بين الطرفين، والتي درج الإعلاميون والساسة على استعمالها، لا تعبّر عن حقيقة هذه العلاقة، فالعلاقة كانت، في الواقع، وأثناء الفترة الأطول من حكم النهضة علاقة «تشارك وتقاسم أدوار». بحيث لا يصح القول، أنّ حكومة النهضة غضّت الطرف عن سياسات وأنشطة تستنكرها وتعارضها وعن خطاب تكفيري متشدّد، يؤسس للفتنة ويشرّع للتقاتل بين أبناء الملّة الواحدة، فهذا أمر لا يزعجها، فهي تدرجه في خانة حريّة الاعتقاد والتفكير والتعبير.
الغطاء السياسي والأمني
ما يصحّ قوله، هو أنّ حكومة النهضة كانت على بينة مما تفعل، لقد وفرت –موضوعيا – الغطاء السياسي والأمني الذي ساعد التيار السلفي، عموما، وأنصار الشريعة، تحديدا، على التمكين، فقد تحوّل وفي أشهر معدودات إلى جزء مهم من الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي والديني، انغرس في المجتمع وبنى شبكاته التنظيمية في الأرياف والمدن، تمّ كل ذلك بمرأى ومسمع من أجهزة الدولة.
كان هناك عقد ضمني بين التنظيمات الجهاديّة بما في ذلك تنظيم القاعدة وتنظيمات الإسلام السياسي الحاكمة في بلدان «الربيع العربي» أوجزته المقولة الذائعة «تونس أرض دعوة لا أرض جهاد» هذه «كلمة العبور» بمقتضاها تتمتع «التنظيمات الجهاديّة» بالغطاء السياسي والحماية الأمنية لبثّ الدعوة وتأطير الأنصار وبمقتضاها، أيضا، تبرّىء حركات الإسلام السياسي نفسها من تهمة التعامل مع تنظيمات إرهابية وحجّة حكومة النهضة، التي تبرر بها السماح للجماعات السلفية بالنشاط الدّعوي هو التزام هذه الجماعات بنبذ العنف، كانت تسعى لإقناع خصومها السياسيين وشركائنا الأجانب أن في هذا الخير كل الخير وأنها بصنيعها هذا تحارب التطرّف الديني وأنها تراهن، من خلال هذه العلاقة، على عزل المتطرفين وحشد جلّ أنصار هذه التنظيمات لتعزيز جبهة القوى الإسلامية الوسطية، التي تتبنى الفكرة الديمقراطية ولا تعادي الغرب.
بفضل هذا «العقد» تمكن التيار السلفي، وتحديدا «أنصار الشريعة» جسم هذا التيار، في الحالة التونسية، من ممارسة أنشطته الدعويّة والتنظيمية وأنشطة أخرى «خفية» بكل راحة وأريحيّة
والتي تتمثل بالأساس، فيما يلي:
– استثمار الفضاء الديني لنشر الدعوة وتجنيد الأنصار وذلك عبر الهيمنة، ومنذ 2011 على عدد مهم من المساجد، بلغ، في بعض التقديرات وفي الفترة الأولى، نحو 2000 مسجد، لقد تحولت هذه المساجد، إلى فضاء لنشر المذهب الوهابي وترويج خطاب تكفيري متحجّر، يبثّ الفتنة ويؤسس لتقويض السلم الأهلي. وقد تعزّز هذا الخطاب، في غمار النشوة «بالصحوة الإسلامية» وفي فترة التآلف والتعاون مع الخطاب الرسمي أو شبه الرسمي الذي يرعاه الوزير الخادمي والذي يقال أنه هو أيضا مصاب «باّلوثة» الوهابية.
– لم تقتصر وظيفة المساجد لدى السلفيين، وفي المقدّمة «أنضار الشريعة» على الدعوة بل تحوّلت إلى فضاءلت لجمع التبرّعات وتقديم الخدمات وتجنيد الأنصار وتخزين «الأسلحة» وإيواء الملاحقين من الأمن، أصبحت، وبوجه أخصّ، بؤرة لاستقطاب الشباب لتجنيده «للجهاد» في سوريا أو لإعداده «للجهاد» بتونس سواء بمراكز التدريب والتكوين المنتشرة بالبلاد، أو بإرساله لمعسكرات التدريب بليبيا.
– استيراد الدعاة: لقد جسّد التيار السلفي وأيضا حركة النهضة، وخاصة خلال السنة الأولى من حكم الترويكا، شعار تونس «أرض دعوة» فقد توافد العديد من شيوخ الوهابية وشيوخ الإخوان إلى بلادنا، لنشر الدعوة الوهابية والفكر الإخواني على حدّ السّواء، كان بعضهم يعتقد، بصفة مضمرة طبعا، أن تونس قد ضلّت، منذ العهد البورقيبي، السبيل وزاغت عن تعاليم الإسلام واتبعت ملّة الكفر وأن العناية الإلهية قيّضتهم للإسهام في إنجاز مشروع أسلمتها، لمعاضدة جهود الإخوة النهضويين والسلفيين في «فتحها» من جديد وإعادتها لحضيرة الإسلام وخيمة الشريعة.
– لقد كان شعار «موتوا بغيضكم» الذي رفعته صبياّت، في عمر الزهور في وجه أبناء جلدتهم بمناسبة زيارة أحد الدّعاة، رمزا للمآسي التي يختزلها هذا الخطاب والممارسات التي أثمرها وصورة لفضاعة المجتمع الذي يبشّر به شيوخ السلفية، ماذا سيكون عليه حال أمّة يشحن أطفالها بالحقد والبغضاء، تغتصب عقولهم الغضّة، وتشوه طفولتهم البريئة، أمّة يحرّف فيها أهل الذكر الكلم عن مواضعه، ويجتهدون لنحت صورة كريهة للإسلام (صورة إسلام يتماهي مع العنف والقتل والكراهيّة والبغضاء ورفض الآخر).
– بالإضافة إلى النشاط المسجدي واستيراد الدعاة دأب «أنصار الشريعة» على نصب خيم دعويّة، بالمدن والأرياف، وعبر هذه الخيم تغلغلت تعاليم الدعوة الوهابيّة في مختلف الأوساط، باتت «دين» فئة مهمّة من الشباب التونسي وبدأت مظاهرها وممارستها، وبسرعة لافتة، تغزو المجتمع «النقاب» اللباس الأفغاني، الزواج العرفي، إطلاق أللحي، هدم أضرحة الأولياء…» وإلى جانب الخيم الدّعوية نظم «أنصار الشريعة» قوافل خيريّة، توزع الأدوية والإعانات. كما أنشأوا شبكة من الجمعيات الخيرية. والملاحظ أنّ هويّة هذه الجمعيات وصلتها بالإرهاب والتهريب وتمويلها للأحزاب وتوظيف إعانتها لتجنيد الإرهابيين، ملف من أعقد الملفات . ويستفاد من التحقيقات القضائية التي اجريت مؤخّرا ضلوع بعض هذه الجمعيات وتحت «يافطة الأعمال الخيريّة» في مختلف هذه الأنشطة،
ولم تقتصر أنشطة التيار السلفي، على استقطاب الشباب لتمويل الشبكات الدعويّة والإرهابية بل اتّجه للقيام بعمل تأسيسي، للاهتمام بالنشء الذي سيشكل نواة المجتمع السلفي المنشود وفي هذا الإطار تندرج الجهود التي بذلها لبعث شبكة من رياض الأطفال والتي أطلق عليها «الرياض القرآنية».
هذه الأنشطة المختلفة التي كان يمارسها تنظيم «أنصار الشريعة» ساعدته على التغلغل في البيئة التونسية فقد أنشأ دعاته وأتباعه، في بعض الأحياء الشعبية، بالعاصمة وبعض القرى والمدن داخل البلاد، ما يشبه دولة داخل الدولة . لقد مارسوا في عديد الأماكن، وتحت يافطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أدوار الشرطة والقضاء: يفصلون في الخصومات ويؤدّبون «العصاة»، يغلقون الحانات، يهاجمون المواخير، يعتدون على دور الثقافة، يمنعون الأنشطة الثقافية، يعتدون على مقرّات السيادة ومحلات المنظمات النقابية والأحزاب، يفعلون ذلك دون أن يتعرّضوا، في غالب الأحيان، إلى أيّة مساءلة أو عقاب.
ما يهمنا هنا هو أنّ حكومة النهضة كانت في غاية التسامح تجاه تجاوزات الحركة السلفية واعتداءاتها، خلال هذه المرحلة، كانت تكذّب الأخبار، تطعن في التحقيقات وتتهم الإعلام بالمبالغة والتضخيم وخدمة أجندات المعارضة وقوى الثورة المضادة. وكان قوام التعليمات الموجهة إلى أجهزة الأمن هو غضّ الطرف «دعه يمرّ» وإذا فرضت بعض الأحداث نفسها وحتّمت إجراء تتبعات أو اعتقالات، فسرعان ما تغلق الملفات، وفي أغلب الأحيان، يطلق سراح المعتدين.
الحلقــة الثـانية و الأخيرة:
لقد تناولت الحلقة الأولى بالتحليل الأرضية الإيديولوجية والسياسية للعلاقة بين النهضة والتيارات السلفيّة، وسياسة الشراكة وتقاسم الأدوار والتي وسمت المرحلة الأولى من العلاقة بين الطرفين ونتحّدث في هذه الحلقة
عن شبهة التواطؤ وأسباب القطيعة أو شبه القطيعة.
لقد غلبت حكومة النهضة، طيلة الفترة الأولى من حكمها، الاعتبارات الإيديولوجية والمصالح السياسية في علاقاتها مع الحركة السلفية، وكان ذلك وكما أثبتت الأحداث اللاحقة، على حساب أمن البلاد ومؤسسات الدولة، ليس هذا فحسب بل شهدت هذه الفترة ما يشبه التحالف بين الطرفين، وعلى كل نسجت الأحداث بينهما شراكة ميدانية، لقد خاضا معارك مشتركة ضدّ ما وصف بإعلام العار، وقضيّة النقاب (الاعتصام أمام التلفزة الوطنية، المظاهرة ضدّ نسمة، الاعتداء على الصحفيين في محاكمة نسمة، تضامن النهضة مع السلفيين في معركة النقاب بجامعة منوبة) المظاهرة ضدّ السفارة الأمريكية كانت، بدورها، تدبيرا مشتركا، لكن اختلفت المواقف بعد انفلات الأمور والاعتداء على السفارة.
شبهة التواطؤ
لكن الأمر الأخطر والذي يثير العديد من الشبهات والتساؤلات حول حقيقة العلاقة بين الطرفين الظاهر منها والباطن، هو أنّ «تيار أنصار الشريعة» لم يستثمر فحسب سياسة الأمن والأمان التي تمتّع بها طيلة هذه الفترة لبثّ الدعوة ونشر التنظيم، وحشد الأنصار، بل استثمرها، أيضا، لتهيئة البيئة اللوجستية، وتوفير الموارد البشريّة، والإمكانات الماليّة، التي ستساعده لاحقا على الانتقال إلى ممارسة الاغتيالات وتحويل تونس من «أرض دعوة إلى أرض جهاد».
بموازاة العمل الدعوي والخيري كان تنظيم «أنصار الشريعة» يهيّئ بالمدن والأحياء الشعبية «محاضن شعبية» لإيواء «الجهاديين» وتمويلهم بالعتاد والمؤن، لقد كان التنظيم يرتّب مصادر التمويل، ويعدّ مراكز للتكوين والتدريب وكان ينظم شبكات لتهريب السلاح وتخزينه إضافة إلى أنه كان يعزّز العلاقات ويعقد الصفقات مع حلفائه في ليبيا…
كان يفعل كل هذا والسؤال الكبير الذي طرح نفسه ولا يزال هو هل نكث تنظيم «أنصار الشريعة» العهد، وخدع حكومة النهضة، متمثلا مقولة «الحرب خدعة» أم كانت الحكومة، وتحديدا،المؤسسّة الأمنية على علم بكل هذا وغضّت الطرف؟ إذا نجح في خداع الحكومة والحزب الحاكم، مهندس هذه العلاقة، والمؤسسة الأمنية، فهذه مصيبة، لأن حكومة جديرة بهذا الاسم ينبغي أن تتوافر على الحدّ الضروري من اليقظة، والخبرة ومن أجهزة الاستعلامات التي تمكنها من حماية الأمن القومي وإذا كانت على علم بذلك فلماذا غضّت الطرف؟ لماذا لم تتحرك في الوقت المناسب وقبل استفحال الدّاء؟
لقد تبلورت، من خلال الأحداث والمعلومات والتصريحات، إجابتان، إجابة الحكومة التي تحدّث عنها، بشيء من الوضوح وربما لأول مرّة، علي العريض رئيس الحكومة السابق ووزير الداخلية في حكومة الجبالي في برنامج (لمن يجرؤ فقط)؟ لقد نفى،طبعا، اتّهام حكومة الترويكا بالتساهل مع السلفية الجهادية، فضلا على الاتهام بالتواطؤ معها، لكن ما يشدّ الانتباه في حديثه، وبغض النظر عن هذا النفي المعتاد، يمكن أن نحدّده في أمرين، أولهما: أنّ المؤسسة الأمنية كانت تتابع هذا التنظيم وتعاين إعادة تشكله وبنائه وبحوزتها العديد من المعطيات عنه ومن ثمة فهي لم تكن مخدوعة أو غافلة عما يجري، ثانيهما أن المؤسسة الأمنية، نفسها مازالت ضعيفة، أثناء تلك الفترة، لا تزال بدورها في حالة إعادة بناء، تسهر على تجميع قدراتها وتحسين أداء أجهزتها الاستخبارتية وغيرها.
تعني هذه الإجابة، بعنصريها، أن وزارة الداخليّة كانت لديها معطيات عن هذا التنظيم، الذي هو بصدد إعادة البناء، لكن ليست بالقدر الكافي وفي هذا إيحاء، بأنها فوجئت بقدراته وتمكنه، كما تعني أن وضعيّة المؤسسة الأمنية لم تكن في وضعيّة تسمح لها بإعلان الحرب عليه وفي هذا سرّ التردّد والتباطؤ في تصنيفه كتنظيم إرهابي..

إجابة الوزير تبدو متناسقة لكنها تنبئ بسوء تقدير، فالموقف المنتظر من رجل الدولة، في مثل هذه الحالة، هو الإقدام على هذه الحرب، رغم ضعف المؤسسة الأمنية، لأن بهذا التردّد والتأخير صلّب عود التنظيم وتعاظمت قدراته وإمكاناته، وممّا يؤكّد سوء التقدير أن هذه الحرب لن تخوضها المؤسسة الأمنية بمفردها فستجد إلى جانبها المؤسسة العسكرية، لكل هذا تبدو الإجابة غير مقنعة وقد تخفي الأسباب الحقيقة لهذا الموقف.
ثانيهما إجابة النقابات الأمنية والعديد من السياسيين والخبراء والتي تؤكّد أن توطّن الإرهاب واستفحاله وضعف المؤسسة الأمنية ليست قدرا، وإنما هي نتاج غياب الإرادة السياسية والقرار السياسي، وأنّ حكومتي النهضة تتحملان المسؤولية في التمكين للإرهاب وتمزيق المؤسسة الأمنية وضعف أدائها، كما يؤكد هؤلاء أنّ المؤسسة الأمنية، رغم ضعف إمكاناتها، كانت قادرة، حينها، على السيطرة على الوضع وضرب هذه التنظيمات وهي في المهد.
يقدّم هؤلاء عديد الحجج على أنّ موقف الحكومة من تنظيم أنصار الشريعة ليس ناتجا عن سوء تقدير وإنما أملته اعتبارات إيديولوجية ومصالح حزبية وإن اضطرت، في نهاية المطاف، لضغوطات داخلية وأخرى خارجيّة إلى تصنيفه وتغيير سياساتها تجاهه.
الحجة الأهمّ من هذه الحجج إعلان بعض النقابات الأمنية عن وجود جماعات تتدرّب عن السلاح، في جبل الشعانبي، وكان الردّ الشهير لطروش، الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية، ردّ ملأ الدنيا وشغل الناس، من يومها وإلى يومنا هذا فقد نفى بأسلوب ساخر وتهكمي هذا الخبر.
أسلوب الرّ د يعدّ بحدّ ذاته حجة على أنّ هناك شيئا ما وأنّ الخبر ليس عاريا من الصحّة كما زعم، وبعد أن أثبتت أحداث الشعانبي، وقبلها أحداث كتيبة عقبة ابن نافع التي راح ضحيتها «العميد الجلاصي..» صدق النبأ وفندّت ردّ وزارة الداخلية، وبعد أن كشفت أنّ أنصار الشريعة حوّلوا جبل الشعانبي إلى «قلعة حرب»ومركز لتدريب فرق الموت أصبح تصريح طروش الساخر هو موضع السخرية والتندّر في دوائر الساسة ووسائل الإعلام ولدى الرأي العام وحجّة ساطعة على أنّ الوزارة استهترت بالأمن القومي وأساءت السبيل.
عندها ثارت ثائرة طروش ووزيره ومريديه «الدڤ ولّى في الدربالة» التهمة خطيرة والوزارة مدانة ولا بدّ من تبرئة الذمّة. من يومها بدأت محنة طروش المزمنة وأيضا محنة وزيره، محنة إقناع الناس على أنّ التصريح أسيء فهمه. لكن جهود الوزير والناطق باءت بالفشل الذريع، فما كان لهذه التأكيدات والتصحيحات، التي تتعسّف على منطوق التصريح مفهومه وسياقه تقنع الرأي العام، على العكس رأي فيها ضربا من المداورة والمخاتلة ومحاولة يائسة للإفلات من تحمّل المسؤولية خاصة إذا أخذنا في الحسبان أنّ طروش صاحب سوابق وحرفية في الكذب والمغالطة وقلب الحقائق كما تؤكّد تصريحاته حول مأساة لطفي نقض .
على كل، ومهما قلبنا الأمر، فإنّ الوزارة مسؤولة عن النتائج الكارثيّة التي ترتّبت عن هذا الموقف والتي لا تقلّ كارثيّة عن تأمين فرار أبى عياض، يطرح هذا الموقف أمامنا أحد احتمالين:
أولهما: وهو الظاهر، أنّ الوزارة متأكّدة، من خلال، استخباراتها، أنّ الخبر عار من الصحّة وأنّ أصحابه جديرون بذلك الردّ الساخر، فلم تكلف نفسها عناء البحث والتثبّت والمتابعة، والنتيجة أنّها فوجئت بالأمر وزارتنا لم تتأكّد من صحّة النبأ إلاّ يوم أن انفجرت الألغام وبترت الأرجل وعميت العيون وإذا كان الأمر كذلك فهذه مصيبة، إنها عيّنة صارخة من القصور والتقصير، وغياب الحدّ الأدنى من الحرفيّة وروح المسؤولية. إنّ شرف المسؤولية لا يدعو، في مثل هذه الحالات، إلى استقالة الوزير والناطق بل لإعادة هيكلة مصالح الوزارة برمتها.
ثانيهما: أن الوزارة كانت على علم بالأمر وتستّرت عليه وإذا كان الأمر كذلك فهذه مصيبة أعظم، إنها حجّة صارخة على «تواطؤ» الحكم مع الإرهاب. لقد أفاد أحد الأمنيين في حوار تلفزي أنّ طروش أسرّ لأحد أصدقائه يوم أن غادر مهمته، أنه كان ضحيّة لفلان وفلان في موضوع التصريح «غابت عني الأسماء الذي ذكرها ويمكن العودة إليها في تسجيل البرنامج». هذا الخبر، في حال التأكّد منه، من الأهميّة بمكان لأنه يلقي الأضواء عن الشخصيات المتنفذة ومراكز صنع القرار في الوزارة في تلك الفترة.
هذه المسألة لا يزال يحيط، بها، في الواقع، الكثير من الغموض، إذ تواترت الأخبار، حينها، عن تداخل بين الوزارة، والحزب الحاكم وأنّ قيادة حركة النهضة كان لها دور مباشر سواء، في ضبط السياسات الأمنية أو إعادة الهيكلة. لقد أعلن القيادي في الحزب الجمهوري نجيب الشابي أنّ قيادات من النهضة كانت تحضر في غرفة العمليات بالوزارة، أخبار أخرى تسربت من مصادر أمنية تفيد أنّ بعض قيادات الحركة كانت على صلة مباشرة بمديري الوزارة ولعبت دورا مهما في التعيينات على أساس الانتماء الحزبي والولاء السياسي، جهات أخرى أكّدت، وبكل وثوقيّة، أن الزواري مدير المصالح المختصّة رجل مونبليزير في الوزارة وأنّه على صلة وفي تواصل مع الشيخ راشد. لا يمكن تأكيد هذه الأخبار أو نفيها، لكن تبقى غير مستبعدة إذا نزلناها في إطار إستراتيجية حركة النهضة التي تسعى، لا سيما في تلك المرحلة، إلى الهيمنة على مفاصل الدولة وضمان ولاء المؤسسة الأمنية. ،

لهذه الأسباب نتفهّم تشنّج الوزير ودفاعه بحماس عن طروش ومحاولته، مرّة أخرى، ليّ عنق الحقيقة. لكن الشيء المفاجئ والمستغرب، بل من المتعذّر فهمه هو أن يقول العريض، وفي معرض تزكيته لرواية الناطق، «من كان له خبر كهذا كان عليه أن يبلغه للمصالح الأمنية» قال هذا في برنامج (لمن يجرؤ فقط)؟ ما هذا يا سيادة الوزير، لقد بلغّتم ونفيتم، كان المفترض أن تستدعي مصالحكم النقابة المعنية وتستفسر الأمر، وإذا كانت الأنفة تمنعكم من التعامل مع هذه النقابة «المتسيّسة وغير المسؤولة» أما كان على مصالحكم أن تتثبّت بوسائلها من الخبر؟ من يتحمّل تبعات هذا التصرف غير المسؤول؟ في ذمّة من دماء منظوريكم من أمنيين وحرس الذين حصدتهم ألغام الرياضيين؟
من المبكّر أن نتعرّف عن الحقيقة في هذه المسألة الجوهريّة، والتي ستكون لها الكلمة الفصل في حقيقة العلاقة بين حركة النهضة و»أنصار الشريعة» ومن الطبيعي، أيضا، أن تسعى حكومة النهضة، بالأمس، وخاصة اليوم، لطمس معالم هذه العلاقة وحمل الرأي العام على نسيان ما كان يجمعها بهذا التنظيم قبل منعرج حادثة السفارة وفرار أبى عياض وما تلاه من أحداث والتي أجبرت الحكومة، في نهاية المطاف، على القطيعة معه وتصنيفه كتنظيم إرهابي.
هل لعب أبو عياض بالنهضة؟
لكن الأمر الأكيد أن هذه المحاولات لن تجدي نفعا، لن تغيّر الوقائع الملموسة ولن تتلف التصريحات والمواقف الموثّقة، فحركة النهضة وحكومتها لا يمكنهما إنكار أن هذا التنظيم كان عشيرها، طيلة هذه الحقبة، وأنه كان عونا لها في العديد من المعارك التي خاضتها (المعارك ضدّ إعلام العار، ضدّ أزلام النظام وقوى الردّة، ضدّ اتحاد الشغل) كما كان لها نعم الرافد، رغم الخلافات وتنافر الرؤى والسياسات، في معركة التمكين للمشروع الإسلامي ككل ودحر خصومه، وخاصة في الفضاء الديني، حيث تمّحى، في كثير من الأحيان، الفواصل بين خطاب السلفيين وأنصار النهضة لتطغى على الخطابين، رغم اختلاف اللهجة، مسحة التكفير ويرسم كلاهما، كل بأسلوبه، معالم المعركة السياسي بوصفها معركة بين الإسلاميين وأعداء الإسلام، وبصفة أكثر مباشرتية بين أمّة الإسلام وأمّة الكفر.
قد تشعر النهضة بأنها خدعت من قبل أنصار الشريعة وأن شعار تونس «أرض دعوة لا أرض جهاد» كان مجرّد حيلة لتوفّر له النهضة شروط التمكين، قد تشعر أنها فشلت في كسب رهان دمج هذا التنظيم في حظيرة القوى الإسلاميّة الوسطيّة وأنها عجزت حتى على مجرّد إقناعه بأنّ تونس بلد مسلم وأنه لا يجوز إعلان الجهاد في دار الإسلام، قد تشعر بأكثر من هذا، قد تشعر أنّها «ضحيّة» وأنّ تنظيم أبى عياض قد لعب بها وخرّب علاقاتها مع الأمريكان – ولاّ أمل لأي فريق في الحكم إذا أدار عنه الأمريكان عيونهم – وتسبّب بالاغتيالات- المتهم بها إلى أن تقول العدالة كلمتها – في إسقاط حكومتي النهضة وإخراجها من الحكومة، وإعلان الشيخ راشد أن الإرهاب أسقط حكومتي الحركة يمكن تنزيله في هدا الإطار. قد يرى بعض صقور الحركة أنّ حزبهم لم يخسر الرهان:(الزمان ما فيه أمان) فقد تدور علينا الدوائر كما دارت على إخوان مصر و إخوان ليبيا فيكون تنظيم أنصار الشريعة، نعم العون ونعم النصير.
قد تجول كل هذه المشاعر والأفكار في أذهان النهضويين، لكن هذا لن يغيّر من الواقع شيئا . ما يعنينا هنا هو أن العشرة ساءت بين الطرفين وأن العلاقة بهذا التنظيم شهدت تحوّلا منذ أحداث السفارة الأمريكية بحيث يمكن القول أنّ هذا الحدث كان عنوان «نهاية مرحلة وبداية أخرى» في العلاقة بين الطرفين، كان بداية المسيرة التي انتهت بالقطيعة، أو شبه القطيعة.

 

شاهد أيضاً

الْمَقْصُورَةُ فِي الْمَسْجِد.. / القاضي أحمد ولد المصطفى

المقصورة في المسجد : باستغلال، وجمع مختصر للغاية بين كلام اللغويين والفقهاء هي مكان يُتَّخَذُ …