27 يوليو 2024 , 10:25

موجة الانقلابات في إفريقيا .. وعد باستكمال التحرير أم تكريس لتبعية قائمة؟

الانقلابات في إفريقيا

تعرف إفريقيا، الساحل الإفريقي خاصة، سلسلة انقلابات تسائل كلها أسس الاستقرار الهش منذ موجة الاستقلال خلال النصف الثاني من القرن العشرين. كان الاستقلال في غالب الحالات مقيدا بالتزامات سياسية واقتصادية مرهقة، كرست التبعية ومنعت تأسيس تنمية مُستدامة، كما حالت دون بناء دولة قُطرية ديمقراطية ومستقلة ذات سيادة حقيقية. فهل نعتبر سلسلة الانقلابات هذه، وخاصة هاته الأخيرة المقرونة بخطاب التحرر من الاستعمار وتبني مطالب التنمية والسيادة القطرية في سياق قاري وعدا بالتحرير أم تكريسا لتبعية ممتدة؟

عوامل داخلية

وعلى الرغم من وضوح صعوبات وتعثرات بناء دولة بمؤسسات حديثة وقوية ومتكاملة في إفريقيا عموما باستثناءات قليلة، فغالبا ما يتم تفسير هذه الانقلابات بأسباب داخلية وخارجية معقدة ومتشابكة، منها على سبيل المثال لا الحصر:

– صورية الاستقلال المحصل عليه من المستعمر الأوروبي.

– ضعف إن لم يكن غياب تنمية مستدامة على أسس استراتيجية سيادية وبنيوية.

– الخضوع لولاءات مرهقة اقتصاديا وسياسيا وثقافيا لقوى خارجية أوروبية أساسا بعد الاستقلال.

– غياب نظام ديمقراطي يفتح باب التعبير الثقافي والعرقي، يفتح إمكانية المساهمة في ممارسة التدبير وصياغة السياسات العمومية وتنفيذها في وجه مختلف النخب السياسية، كما يمكنها من التجديد والتجدُّدِ

– انتشار الفقر والأمية والتفاوت الاجتماعي والاقتصادي بين مختلف شرائح المجتمع نتيجة لما سبق ذكره من عوامل.

تحولات عالمية مُحفزة!

بعد مالي وبوركينافاسو والنيجر أخيرا، انضاف صباح يوم 30 غشت انقلاب عسكري في الغابون لتكريس إفريقيا قارة غير مستقرة. ففي ظل الصعوبات الاقتصادية والمالية التي يعرفها العالم، وانعكاس الأزمات العالمية المالية والاقتصادية بسبب مخلفات كوفيد، والحرب الغربية الروسية في أوكرانيا، والصراع الصيني الأمريكي الاقتصادي، وفي سياق التغيرات المناخية القوية التي تهدد وتؤثر على الاقتصاد العالمي، يبدو أن وراء هذه السلسلة من الانقلابات -هل تتفاقم أم تنحسر؟- شبكة معقدة من العوامل القطرية والقارية والعالمية، منها على وجه الخصوص، ما له علاقة بإعادة ترتيب خارطة النظام العالمي الجيو-سياسية والجيوستراتيجية للعالم، وما تنتجه من تفاعلات على مستوى التحول من أحادية القطبية إلى تعددها ومدى انعكاس ذلك على استقرار سلاسل التوريد وأثمنة المواد الغذائية والتجارة العالمية.

علاوة على ما سبق، هناك آثار وعواقب توجه القوى العالمية الكبرى، من الولايات المتحدة الأمريكية حتى الصين، مرورا بروسيا والهند وغيرها، نحو إفريقيا كمصدر للثروات وكسوق كبرى، وما ينتج عن هذا التوجه من ضغوط متنوعة ومتعددة على دول تحافظ بالكاد على استقرارها وأمنها القطري. فالدول الكبرى تتصارع وتتسابق للسيطرة على إفريقيا سوقا ومصدرا للطاقات البشرية وللثروات الطبيعية، ومجالا للتوسع كقوى اقتصادية وعسكرية.

وعي نظري رهينة لواقع عملي

يتعلق الأمر بانقلابات مثيرة للجدل ولسؤال الجدوى، فهل سيحقق الجيش ما لم تحققه ديمقراطيات مدنية في تجارب عسيرة؟

قال توماس سانكارا، الزعيم الثوري البوركينابي: لن يتم الاستقرار الحقيقي إلا من خلال التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية. أما نيلسون مانديلا فقد قال: الديمقراطية تعني حكم الشعب، وبدونها يكون هناك تفكك وعنف. وفي كلتا الحالتين هل تتوفر لإفريقيا ولدولها البنيات والمؤسسات السياسية والاقتصادية، التي تمنح سياساتها السيادية المتوخاة وسائل تنفيذها؟

توضح دراسات وإحصائيات عديدة بعض أسباب ودوافع الانقلابات في إفريقيا. فحسب دراسة أجريت بين 1960 و2019، حدثت انقلابات في ما يقرب من 80% من الدول الإفريقية على الأقل مرة واحدة. وقد حدثت نسبة كبيرة من هذه الانقلابات في الدول التي تعاني من مؤشرات مرتفعة من الفقر والبطالة. يشير هذا الأمر إلى التأثير السّببي الكبير لظروف العيش الاقتصادية في حدوث الانقلابات.

يعتبر ضعف، إن لم يكن غياب، الديمقراطية على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية كذلك، من العوامل الحاضرة في الدول التي شهدت انقلابات، إذ هناك احتكار للسلطة في غالبية هذه الدول، من قبل أقليات أو أسر أو طغمات عسكرية لا مشروعية تاريخية أو انتخابية لها.

بالإضافة إلى ما سبق يجمع الكثير من الدارسين والملاحظين على وجود تدخلات خارجية، كان له تأثير ملحوظ في الزيادة في عدد الانقلابات، حيث تسببت هذه التدخلات، الموجهة أساسا للحفاظ على مصالح من ورائها وهي في الغالب صادرة عن المستعمرين التقليديين، في دعم أقليات توافق على بقاء أشكال الاستعمار والاستنزاف الاقتصادي والسياسي بالتالي، وهو ما يتناسب مع إجهاض كل محاولات البناء الديمقراطي الوطني، المناقض لمصالح المستعمرين القدامى والجدد.

قوة العوامل الخارجية وتشابكها بالعوامل الداخلية.

في ظل عالم أصبح قرية صغيرة تتشابك فيها كل مناحي الحياة والقرار السياسيين والاجتماعي والأمني والمالي… إلخ، وذلك بفضل التطور التكنولوجي الذي جعل بنيات الاتصال ونقل المعلومات وآنية انعكاس القرار الاقتصادي عالميا على الأسواق والأثمنة… أصبحت علاقة التنمية القطرية بالقوى الخارجية حتمية وقوية التأثير والتأثر. يصح هذا الترابط في حالات ضعف الدولة القطرية وافتقارها لوسائل ممارسة سيادة قرارها السياسي والاقتصادي، وهو ما ينطبق إلى حد بعيد على تطورات الأوضاع بدول الساحل الإفريقي بحيث أن:

التنمية هشة والفقر ظاهر في الساحل الإفريقي بوضوح كمنطقة تعاني من تنمية غير كافية، فالسكان يعانون من مشاكل اقتصادية جذرية مثل البطالة ونقص الفرص الاقتصادية. هذه الظروف تجعل الشباب عرضة للتجنيد في الجماعات المتطرفة والتحالفات المسلحة، كما تجعل الساكنة قابلة لبيع أصواتها ورهن مستقبلها مقابل النزر اليسر من القوت اليومي.

ترابط تصاعد الصراعات والاضطرابات في المنطقة مع ضعف الهياكل الحكومية ونقص الخدمات الأساسية. وهو ما يجعل السكان أكثر عرضة للتأثر بالتجاذبات السياسية والانقسامات.

يشمل الساحل الإفريقي مجموعة متنوعة من الثقافات والقوميات، وقد يؤدي عدم التوازن في توزيع السلطة والثروة إلى تصاعد التوترات العرقية والقومية، وهو ما ظهر بشكل ملموس في أحداث دموية معروفة سابقا مثل رواندا على سبيل المثال.

سعي الدول الكبرى والقوى الإقليمية إلى تعزيز تأثيرها في المنطقة، سواءً لأسباب اقتصادية أو استراتيجية. قد تدعم بعض هذه القوى فصائل مسلحة أو تتدخل في الشؤون الداخلية للدول وقراراتها التنموية التي لا تساير مصالحها واستمرارية هذه المصالح، وهو ما يعزز من عدم الاستقرار ويحول دون تطور سياسي واقتصادي طبيعي لهذه الدول.

تنامي التهديدات الإرهابية والتطرف في الساحل الإفريقي، وهذا يرتبط بجذور اجتماعية واقتصادية ذكرناها سابقا، ولكن أيضًا بتأثير الجماعات المتطرفة العالمية وتدفق التمويل والسلاح من مصادر خارجية لها مصلحة في وجودها لتبرير تدخلها، ولترويج أسلحتها. ويقول خبير في شؤون الساحل الإفريقي إبراهيم غامباري، بأن تدخل القوى الخارجية في الشأن السياسي والاقتصادي لدول الساحل، يقوض بشكل كبير الجهود المحلية لتحقيق الاستقرار والتنمية. كما يقول أستاذ العلاقات الدولية جون إيكنبرغ، بأن تحولات النظام العالمي العنيفة منذ أكثر من عقدين، يخلق مناخًا أكثر تنافسية بين القوى الكبرى وعلى رأسها الصين والولايات المتحدة وروسيا أساسا، وهو ما يمكن أن يزيد من تدخلاتها في المناطق الهامة مثل إفريقيا، نظرا لما في جوفها من ثروات تضمن مستقبلا أكثر أمنا لتلك القوى.

انعكاسات الانقلابات:

تترك الانقلابات آثار بالغة على الدول والشعوب حيث تقع، وتختلف الآراء حول هذه الآثار بين السلبي والايجابي وإن كان أغلب الدارسين والملاحظين يرون الجانب السلبي أقوى من الجانب الإيجابي، على الرغم من كون “المستبد العادل” يظل صورة إيجابية، في تاريخ التدبير السياسي للدول، نظرا للثمن المرتفع قيميا وبشريا الذي تخلفه سياسات الاستبداد عموما. اضطرابات اقتصادية واجتماعية نتيجة لعدم الاستقرار السياسي الناجم عنها.

سلبيات الانقلابات

يرى الباحث صامويل فنبرغ، في مقاله “The Curse of the Strong: Explaining Coups in Africa,” أن الانقلابات تؤدي في الغالب الأعم إلى تدهور الأمن الاقتصادي والاجتماعي حيث تقع، وتؤثر بشكل سلبي على الحقوق الإنسانية. يبدو أن الأمر يرجع إلى الطابع غير الديمقراطي للانقلابيين عموما. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى البعد الإنساني وإلى السلوك غير العنيف للانقلابات الأخيرة في كل من مالي ولبوركينافاسو والنيجر، حيث تبنت جماهير واسعة خطاب الانقلاب التحرري الوطني.

ورد في دراسة “The Political Economy of Coups and the African Condition” للباحث بروس بايون، أن الانقلابات تؤدي إلى تفاقم الفقر وتأخر التنمية. يعتبر هذا الأمر بينا انطلاقا من كون الانقلابيين غالبا ما يفتقرون لخبرات رجال الدولة المحنكين، ولعلاقات ثقة مع النخب الاقتصادية والثقافية والسياسية التي تستطيع قيادة البلاد وتدبير شؤونها بوعي سياسي استراتيجي لبناء تنمية مستدامة ملائمة لما تحتاجه البلد والشعب.

إيجابيات الانقلابات

عكس المنحى السلبي للنظر إلى الانقلابات، هناك من الدارسين والباحثين، واستنادا إلى تاريخ الانقلابات عبر العالم، من يرى أن لها إيجابيات على ندرتها ومنها على سبيل المثال ما تراه

الباحثة ناثالي نوفاك، في دراستها المعنونة بـ: “The Bright Side of Coups” من أن بعض الانقلابات يمكن أن تؤدي إلى تغييرات إيجابية في السياسة والتحول نحو أنظمة ديمقراطية أكثر شفافية، لكن الواقع أن هذه حالات نادرة غالبا ما ارتبطت تاريخيا بنخبة عسكرية انفتحت على الخبرة المدنية السياسية، وتبنت مرحلية قصيرة في ممارسة الحكم لإعادة قطار التدبير السياسي على سكة الديمقراطية. ومن جهة أخرى يرى الباحث جوناثان بول في دراسته “Coup d’état and Democracy” أن بعض الانقلابات قد تساهم في تطهير النظام السياسي من الفساد والاستبداد، وهو الأمر الذي يلاحظ تاريخيا أيضا أنه نادر الوجود والتحقق عبر تاريخ الانقلابات.

باختصار، يظهر أن الموجة الأخيرة من الانقلابات في الساحل الإفريقي تتأثر بعوامل عديدة مثل التنمية المعطلة، وتصاعد الصراعات، وتأثير القوى الخارجية، والتحولات العالمية. هذه العوامل تتفاعل بشكل معقد وتسهم في زيادة عدم الاستقرار في المنطقة.

ادريس القري

شاهد أيضاً

“ملف حصري” .. رئاسيات الـ19 يونيو 2024

“المرابع ميديا” ترصد نتائج عملية الاقتراع وردود الفعل والأوضاع الميدانية .. فوز الرئيس الغزواني في …