7 مايو 2024 , 19:19

في خمسينية المركز الثقافي المصري… ذكريات وعرفان / بقلم: م. محفوظ ولد أحمد

arton17049على هامش الاحتفاء بخمسينية المركز الثقافي المصري في نواكشوط أجد فرصة سانحة للحديث عن هذا المركز الرائد ودوره الاستراتيجي الفعال من خلال تجربةٍ خاصة ، جزءٌ منها شخصي وآخر عن كثب.

وقياسا على نفسي ألاحظ التقصير الكبير الذي يلامس حد اللؤم من مجتمعنا، دولةً وأفراداً، تجاه هذه المؤسسة ولِقاء ما قدمته لطلائع النخب الثقافية العربية التي لها الأصالة والبقاء والمسئولية الواسعة في هذا البلد. ولا أعتقد مع ذلك أن أسباب هذا التقصير كانت من باب الجحود؛ فما من سبب لذلك كما سأبين. بل كان هناك ثلاثة أسباب رئيسة: أولها: توقف المركز وخفوت نشاطه، لأسباب سياسية معروفة من سيئات معاهدة “كامب ديفيد” وما تلاها من عزلة مصر. وثانيها: تضاؤل دور المركز بسبب تغير الظروف الموضوعية وتبدل موازين القوى الثقافية لصالح التعريب وانتشار وسائل التعليم الوطنية والإعلام والثقافة وتطورها اللاحق. وثالثها: انعدام الروابط وقنوات الاتصال بين رواد المركز ومحبيه فيما بينهم هم أنفسهم، وفيما بينهم وبين المركز كهيئة علمية لها كيان مستقل قليلا عن البعثة الدبلوماسية المصرية الرسمية.

هذا هو مجمل الواقع اليوم. أما واقع أمس المذيل بخمسين سنة هي عمر المركز، فيتلخص في السنوات الخمس عشرة الأولى من وجوده، أي منذ تأسيسه سنة 1963 إلى إغلاقه بعد سنة 1979، وكان نصيبي منها خَمسها الأخيرة التي ولجت فيها قاعات هذا المركز ورتعتُ في مكتبته العلمية الغنية وأنشطته الثقافية الخصبة.

ولكن لثراء وتأثير هذه الحقبة القصيرة أعتبر نفسي مواكبا لما قبلها، مدركا لتفاصيله وشاهدا على آثاره.

كانت البداية مع معاناة الرجل الكبير الحكيم الصبور المؤسس المرحوم المختار ولد داداه، من تناقض واقعه وإكراهات حاله ، وصعوبة تحقيق أحلامه. فالرجل العربي الذات والضمير، كان أسيراً للسانِ ومجاراة، إن لم نقل مداراة، مستعمره الفرنسي الذي لم يجد “ملجأ” سواه لمواجهته! فكان الكيان الناشئ الضعيف يعتمد كلية على هذا “العدو” فلا يجد الرجل ـ طالما تشبث بأسلوبه وقناعاته ـ بدا من اتخاذه “صديقا”.

وأقول أسلوبه الخاص، لأنه كان بإمكانه تبني أساليب أخرى يحيط به من يؤيدونها، مثل أسلوب سيكو توري في غينيا مثلا، وأضرابه من هواة الفانتازيا السياسية.

وكانت الطامة الكبرى والمعاناة الأعظم متمثلة في تجاهل أو استخفاف أهم الدول العربية الشقيقة بالدولة الجديدة كليا، وإصغائها لوجهات النظر المغربية المطالبة حينها بضم هذا الإقليم وتفنيد حقه في الكينونة والاستقلال.

ولم تكن سلبيات هذه المعضلة في جوانبها السياسية فقط، ولكنها كانت في جوانبها الأساسية الأهم وهي جوانب صيانة الهُوية وإيجاد التكوين المناسب لها.

وحين حم اللقاء بين ولد داداه وعبد الناصر في تجمع إفريقي، خرج الزعيم المصري بانطباع آخر مختلف تماما، بل شعر بخطإ الموقف المصري والعربي، وقيامه على معطيات سقيمة ومعلومات مضللة بشأن حقيقة موريتانيا وشعبها، وحتى رئيسها!. وفي الحين تقرر إجراء لقاءات ثنائية، وزار الرئيس الموريتاني القاهرة ونبه المصريين على خطورة تلك التحديات المتمثلة أساسا في بلد ناشئ يملك ثقافة عربية تقليدية عريقة ومعروفة، ولكنها مهددة بسبب الافتقار إلى التحديث والتوجيه لمتطلبات العصر الجديد في وجه واقع ثقافة فرنسية طاغية يقودها الفرنسيون بأنفسهم وبأطر أجنبية ونصف أجنبية… لا تعترف بتلك الثقافة الأصلية فضلا عن إرادة تحديثها!.

وتكررت اللقاءات وتبادل الزيارات بين القاهرة ونواكشوط على هذه المحاور الثقافية والإعلامية أولا، بعيدا عن السياسة. وكانت تلك “جينة” نبيلة طيبت محتد المركز الثقافي المصري في نواكشوط ، وجعلته كيانا علميا نافعا وصرحا ثقافيا سليما من الآفات السياسية والأيديولوجية التي ميزت المراكز الثقافية العربية الأخرى اللاحقة.

قام المركز الثقافي المصري كأول “سفارة” لمصر… قبل أن تكون السفارة المصرية نفسها، بل قبل الإعلان الرسمي عن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

فتح المركز أبوابه في عاصمة صغيرة ناشئة لا تعرف إلا أخلاق ثقافة وغرور الإدارة الفرنسية الاستعمارية التي ترى في لغتها الفرنسية حماها المقدس.

كان حملة الثقافة العربية (المحظرية) يتوافدون بقلة على العاصمة لأغراض شتى ليس بينها التمدرس ولا “الترشح” للوزارة بالطبع! كان جل بحثهم عن تجارة أو عمل بسيط، وكثير منهم علماء يبحثون عن من يأخذ عنهم العلم والمعرفة! ولكنهم كانوا جميعا ، بسبب فصاحتهم، كالأيتام على مائدة اللئام المحروسة بالقلعة الفرنسية الجبارة في الحي k.

غير أن مبنى صغيرا وأنيقا يقع على ناصية الشارع الرئيسي ـ شارع الكثيب يومها ـ قبالة ملتقى BMD كان يبدي بضائع محببة إلى الموريتانيين عموما ومعشوقة للمتعلمين في المحاظر خاصة: إنها الكتب! كتب كثيرة وطبعات جميلة؛ منها عناوين معهودة وأخرى جديدة.

لكن حين يدخل الزائر، الذي رأى نفسه في مواجهة أغلى أحلامه، يجد أن الكتب ليست للبيع! ثم يكتشف الطاولات والمقاعد النظيفة ويبدأ مطالعة هذا الكتاب وذاك… حتى ينتهي الوقت بسرعة قبل أن يكمل استطلاع قليل من تلك الرفوف التي تأخذ بالألباب. فيرجع في المساء، ثم غدا ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة، ثم بعد غد مع آخرين… ليزداد العدد ويربو مع موجات النزوح الكبرى إلى العاصمة بسبب القحط الخطير في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات…

كان المركز الثقافي المصري أكبر من مجرد مكتبة ضخمة. فقد كانت رسالته ذات أبعاد علمية وتربوية وتثقيفية. ولم يتخذ في كل ذلك السبل الدعائية السياسية والأيديولوجية التي كانت طاغية في العالم وفي مصر بالذات. صحيح أنه اهتم بالتوعية وتوفير أشياء تشبه الخدمة الإعلامية والتثقيفية من خلال نشر الأخبار وتحليل الأحداث من رؤية عربية مصرية، عبر الصحف والمجلات وإذاعة صوت العرب، وخاصة إبان حرب 1967 التي تفاعلت معها موريتانيا الرسمية أيضا بشكل تلقائي لم يكن دافعه “رد الجميل” لمصر وحكومتها، من خلال قطع العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية والقيام بحملة دبلوماسية فعالة لطرد إسرائيل من إفريقيا ومضايقتها في العالم أجمع.

ولم تأت سنة 1973، حين اكتشفت شخصيا هذا المركز وأصبحت من خاصة رواده، حتى كان ذلك المبنى الصغير ملتقى علميا متميزا للدارسين والطلاب “الأحرار” من مختلف شرائح المجتمع التي فاتها التعليم النظامي أو عزفت عنه بسبب لغته وطبيعته الأجنبية. فقد كان هناك العرب بألوانهم، والبولار، والسوننكي، والوولف.. تجمعهم آصرة الإسلام وثقافته العربية، وتوحدهم لغة الضاد المحاصرة في عقر دارها!!.

كان أداء المركز ثابتا ومتنوعا ورائعا في شتى المجالات، فهناك قاعات الكتب التي التقينا فيها لأول مرة بالعقاد وطه حسين وأحمد أمين وأحمد شوقي والمنفلوطي ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وجودة السحار… الخ

وهناك “مجموعات” المطالعة الطلابية التي يوفر لها المركز دروسا في علوم جديدة مثل العلوم الطبيعية والرياضيات، وهناك المحاضرات العلمية والثقافية والإسلامية، وهناك العروض السينمائية المصطفاة، وهناك دورات التدريب المهني على الطباعة والسكرتيريا والإدارة ومسك الدفاتر… الخ.

كان المركز خلية تعمل بنظام وكفاءة وإخلاص وتسامح وتفهم للأوضاع، ولمتطلبات آلاف الشباب الذين أصبحوا يتطلعون إلى الالتحاق بالثانويات (لا توجد باكولوريا وطنية حينها) والجامعات في الخارج، أو للوظائف والعمل في الداخل…

وكانت النخبة الفرانكفونية من سدنة الدوائر والمصالح الحكومية في هذه الأثناء غارقة في التمتع بوظائفها ومزاياها، محلقة في أبراجها العاجية! ولم يكن لديها من التواضع ولا من اعتبار خريجي التعليم العربي ما يجعلها تحس بخطر هذه الخلية “السرطانية” التي تصنع ذخيرة حية ستزلزل عروشهم الدخيلة، وتنتف ريشهم المصبوغ.

اليوم يبدو المركز الثقافي المصري وهو يخلد خمسينيته يكاد يركز على الجوانب الفنية كالسينما والمسرح. ولا ريب أن لهذين من الأهمية ما يستدعي ذلك. لكن أعتقد أن الجانب العلمي والثقافي، وبالذات جانب الكتاب والجريدة والمجلة والمحاضرة… يظل أجدر بالتركيز والحضور؛ لأنه في هذا الجانب بالذات أبدع المركز الثقافي وأفاد ونفع وأجاد.

فله منا، على كل حال، التهنئة الخالصة، ولأؤلئك الجنود البررة الذين أداروه، والذين عملوا فيه وخدموا جمهوره، وللشيوخ والأساتذة الذين أنعشوه… الدعاء والتضرع إلى الله بالصحة والسعادة للأحياء منهم، وبالرحمة والنعيم للذين منهم تقدموا إلى الآخرة.

شاهد أيضاً

في  انتظاركم يا صاحب الفخامة / يحي ولد عبدو الله  – دبلوماسي

فى الحادي عشر من الشهر الجاري ستكون مدينة كيفه عاصمة ولايتنا الحبيبة لعصابة على موعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *