المعطى الحقوقي أبرز تحديات المرحلة القادمة / الولي ولد سيدي هيبه
2 أغسطس, 2014
آراء وتحاليل
مر شهر رمضان العظيم بنفحاته الربانية مرور الكرام و مضت بذالك فرصة لن تتجدد إلا بعد سنة كاملة بأشهرها و أيامها و ساعاتها و لم يشهد الواقع السياسي الهش و المذبذب أي مبادرات تبشر بتصحيح المسار و بسمو “الساسة” عن حضيض المهاترات و الملاسنات و الجدل العقيم إلى مراقي صيانة الوطن و بناء المواطن الموريتاني الممزق الأوصال و المقسم بين رواسب التخلف العنيدة و عمق الاختلالات في حاضره العصي على التأقلم مع معطياته و الضعف عن امتلاك آلياته.
كما لم يسجل الوضع الاجتماعي المتسم بالضياع و تصدع جدار بنيته في الأساس و تخلخل الموازين و تلاشي المنطلقات و ضعف الثوابت و تلاشي المراجع أي تحسن من شأنه إذكاء جذوة أمل في حالك الواقع المغيبةِ حقيقتُه القاسية، و أن تفادي “منحدر الضياع” ما زال ممكنا و دحضَ التشاؤم مستطاعا.. و قد اختفت طيلة الشهر المعالجات العميقة و التوجيهات الملحة و الجريئة وراء مظهرية من المسابقات القشرية و موائد الإفطار المُسَيسة غالبا و الربحية أحيانا وسط شح باد من المحاضرات الرصينة و غياب ملحوظ للدروس التي تؤثر في النفسية و المسلك و تسمو بالمتلقين درجات إلى الأعلى لمواجهة نقاط الضعف في العقيدة و حول ما تجتمع على دربه الأمة حتى تشعر بالمساواة في الحقوق و وجوب استجابتها لتأدية الواجب المشترك.
و أما الوضع المادي و المعيشي لأغلب شرائح المواطنين فإنه لا يزال يراوح مكانه بسبب سوء توزيع الثروات من ناحية، و المعنوي في ظل غياب الرعاية النفسية لها متخلخلة و مصدومة منذ بداية و طيلة عقود الاستقلال الخمسة التي تزيد و قد مرت خلالها البلاد:
* بامتحان جفاف مزمن و قاسي و اصطلت بنار حرب ضروس،
* و بقيت عن الركب الأممي بسبب انقلابات متلاحقة و دامية أحيانا،
* و اختلطت أوراقها و تأثرت وحدتها و تصدعت لحمتها بسبب أزمات سياسية حادة و اجتماعية خانقة و مريرة.
و ما تزال الوضعيتان المادية و النفسية قائمتين على أشدهما في حل من أية حلول:
• من فرط سطوة النهب و الفساد – على الرغم من بالغ الجهد الذي بذل لمحاربتهما- و رأس مالهما “المدلل” بأيدي ثلة من الأولين منغمسين في ملذات حياة افتقدوها وقلت حيلتهم عنها، و ثلة من الآخرين صبية مغمورين و نساء أطلقن على عواهنهن؛
• و من قوة النفوذ القبلي و العشائري في دائرة مجموعات أسرية ضيقة و لو لم يكن لحظة هذا النفوذ – حتى من أيام الهيمنة على الدولة المركزية كما كان الحال قبلها- منصفا في صميم التركيبة القبلية العشائرية التفاضلية في بنيتها العامة، و كذلك عند الزعامات في بنيات الإثنيات من نفس الزوايا على حساب جماهيرها الموصومة بـ”لعنة الطبقية ” من جهة ثانية… و ما استشراء هذا الفساد و سطوة النهب، الصارخين الطافحين و رأس مالهما الخارج على القواعد الملتزمة إلا الأسباب التي تكبح مجتمعة كل جهد يسعى إلى تنمية هذه البلاد الزاخرة بمقدرات متنوعة لا حصر لها على أرض معطاء، و إلا المصير في دائرة الاختلال القائم في بعديه الوظيفي و العقائدي و ينتميان بسخرية مقيتة لعقلية بائدة و لأزمنة غابرة.
و لإن كان الشهر الكريم لا يبخل مطلقا و في كل مرة تستقدمه سنة الله في زمنه على الجميع بجزيل معانيه و سمو تعاليمه، فإن الاستجابة لفيض رسالته الروحية المعنى المقصد و المادية المبتغى و النتيجة لم تتبع بما كان ليكفل حتما الطمأنينة لأفراد الشعب المضطرب و لو أن تجاهل واقع ذالك الاضطراب بات ضربا معهودا من “المُتعمد” المزمن.
إن كل المؤشرات تدل على أن بلادنا مقدمة في قابل الأيام على تحولات لن يكون لها “دولة” و لشعبها “أمة” قبلا بها إذا ما ظلت السياسة على ما هي عليه من تحجر و تدار على هذا النحو من الارتجالية في التعاطي و السطحية في المعالجة و السذاجة في التقدير و الاستشراف. و إن كل الدلائل كذلك تدين، على حد سواء، جميع المتسابقين في مضمارها المختفي المعالم، و المتصارعين في حلبتها الخالية من الحكام الأكفاء، البعيدة عن أنظار المتفرجين من أفراد الشعب المغلوبين على أمرهم، المغيبين عن شأنهم و قد عج ببوادر أزمات اجتماعية بالغة الخطورة و منذرة بأخطار بالغة قد تفتح الباب على احتمالات لا تحمد عقباها إذا لم تتخذ إزاءها المواقف الحكيمة و بشأنها الإجراءات الضرورية الصارمة و في هذا الظرف الفاصل بين طفح الكيل و وجود حيز و فرص للإمتصاص.
إلى هذا ستكون المسألة الحقوقية، و بقوة – كما ظلت في الواقع المغيب عن الإدراك السليم و دائرة العمل السياسي الوطني النبيل – لوحدها أكبر عامل تحد سيبصم تميزه و جديته على المرحلة القادمة في ظل تداعيات ما هو حاصل من اختلالات المشهد السياسي الكثيرة و تشعب أوجه تفاعلها السلبية خارج نطاق السيطرة و التصويب بما كانت تستحقه و تفرضه، فيما لم يبد و لو لحظة الاهتمام بها أمرا جوهريا في لب دائرة التعاطي الحاصل لما ظل يتمحور حوله كله في سباق محموم إلى السلطة غاية و نهاية. و إن المتتبع عن كثب لما تمرره جهات لا تخفي الذي تحمله من دعاية حانقة و أتهامية بأكثر من الواقع في منحى لا يخفي عنصرية و رغبة إقصائية مفضوحة لا بد أن يدرك ضرورة المراجعة الشاملة و تحديد منطلقات جديدة لقراءة موضوعية للواقع الجديد و رسم خارطة المستقبل في ظل استدراك الحاضر.
و لقد أَشرت بوضوح على هذا المنحى انتخابات 21 يونيو 2014 و غيرت مفاصل الخطاب السياسي و محتوياته و أولوياته و مقاصده بما لا يدع أدنى شك عند المراقبين و المهتمين بالشأن الموريتاني على المستويين الداخلي و الخارجي.
أو لم يظهر على السطح بمنطق أكثر إلحاحا من ذي قبل و بلغة أغزر في المنحى الاصطلاحي الحقوقي حيث دخلت مفردات جديدة زادت حجم التقطيع في التركيبة المطلبية من إثنية و شرائحية ظلت مقتصرة على الأرقاء السابقين إلى شرائح أخرى موصومة في الهرميات الاجتماعية بالدونية و السلبية؟
و بما أن الأمر كان كذلك فإن المعارضة المقاطعة لهذه الاستحقاقات قد تفاجأت بما تأثرت به كثيرا دعوتها الموجهة إلى مناضليها و غيرهم بالإحجام عن المشاركة في الانتخابات الرئاسية، من هذا المد التعبيري الجديد في دائرة الأخذ بالخطاب ذي الطابع الحقوقي عن الوحدة الوطنية و السلم الاجتماعي. و هي المعارضة بكل أطيافها المتباينة الخطابات الفلسفية و المشارب الفكرية التي تجد اليوم نفسها في مفترق طرق بين مرحلة ولت و أخرى بدأت معالمها تتضح بحلتها الجديدة و اهتماماتها المتولدة عن قناعات تمخضت عنها معطيات رأت النور من رحم التراكمات و التحولات التي لم تهدأ يوما و إن كانت مطبوعة بالخجل. و العجيب المذهل أن هذه التحولات على بطئ مسارها إلا أنها كانت لافتة و في بعض مناحيها مجلجلة و لم تستحدث منطقا معالجاتيا إن جاز التعبير من أي جهة كانت حتى تلاحقت التراكمات و برزت أوجه الأزمات و التداعيات. هل هي السذاجة السياسية في أطوارها البدائية؟ أم هل أنه عمى الألوان السياسية الذي يخلطُ حقائق الأمور بما يكون من التباسها في دائرة اضطراب التحديد؟
و بالرغم من أن شهر رمضان الذي كان علاوة على بعده الروحي الأزلي، أيضا فرصة ذهبية سانحة للعمل السياسي الرفيع تحف أهله بركاته و تطلق إلى الخير و الصفح و النصح أياديهم بيضاء من غير سوء و لأفواههم، الصائمة عن لغو الكلام و دنيئه، الكلمة الطيبة الصادقة.
و لأن شهر رمضان كان أيضا شهر ابتلاء و امتحان و بداية عتق للفلسطينيين من ربقة المحتل الصهيوني الغاشم، فإنه كان كذلك مناسبة، لا قبل للسياسيين بها، لتوضيب البيوت و تجاوز العقد و استلهام الدرس السياسي الوحدوي الجهادي “الغزاوي” لتصحيح المسار و التأصيل لخطاب جديد يحدد أولويات الوطن و يترك الخصوصيات في العمل للتنافس الإيجابي البناء في فضله المطلق.
و لكن و عوضا عن ذلك فقد آلت المسيرة التي نظمتها جهات عديدة نقابية و سياسية و من المجمع المدني لنصرة غزة و مؤازرة أهلها و مجاهديها في وجه العدوان الغاشم و بطش آلة الصهاينة العتاة، إلى مهاترات و سباق غير لائق و كر و فر بعيدا عن روح المسيرة و مساسا بمشاعر أهلها المعذبين على أديم أرضهم الزكية و اعتداء على حرمة شهر رمضان و تعاليمه و توجيهاته.
و قد بدا هذا التصرف و كأنه ثغرة في نضج الطيف السياسي و هشاشة مرتكزات المواقف المشتركة التي تثبت على العادة صلابة عود التشكيلات العتيدة و أصحابها المرموقين. ثغرة كادت أن تخيب الآمال التي نسجت حول المسيرة و مقاصدها النبيلة لولا لطف الله و انفلات أمور القيادة المطلقة من أيدي أصحاب هذا الجدل الهستيري الذي لا يهدأ لأهله بال و لا تقف في وجوههم أية إرادة لحق مجرد أو هدف عام.
و لكن المسيرة “الغزاوية” هذه استطاعت أن تستمر إلى غايتها و أن تكشف لذلك و بجلاء عن أمور ثلاثة بالغة الأهمية سيسجلها التاريخ للمرحلة القادمة و تلعب دورا محوريا في سياق ما سيكون من قراءة غير نمطية للمعطى السياسي الجديد:
• أولها أن ثمة أمورا يحصل عليها تلقائيا إجماع الموريتانيين بكل لون طيفهم الإثني و الطبقي،
• و ثانيها أنه في مثل هذه المواقف و التوجهات لا سلطة تطغى على إرادتهم و توجهاتهم،
• و ثالثها أن ضمير الاستجابة للقضايا العادلة نابض بالحياة لديهم لا تثنيه عن الوقوف مع كل قضية عادلة أية جهة أو سلطة.
و هي أيضا الأمور الثلاثة التي سينبني عليها حتما هذا المنعطف الجديد وبذلك تتعرض الخارطة القائمة بكل دعائمها المتآكلة عند قواعدها و المتهرئة في مرتكزات أسقفها رغم ما تبديه من صلابة و تحدي لعوامل التغيير و متطلبات عدالة دولة القانون التي وحدها تستطيع أن تُظِل الجميع و ترد لدين الإسلام القيم كل اعتباره على أرض مهدها و أعد ما حَولهَا لإتباع شريعته و لأداء كامل دوره المحوري في حياة الأمة.. دولة تخاطب دونما تناقض أو تعارض في ذلك مع العصر بلغة الديمقراطية.