قال الله عز و جل في كتابه الكريم (ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدى الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) الآية41 من سورة الروم.
و الفساد في معاجم اللغة هو البطلان، فيقال فسد الشيء أي بطُلَ واضمحل، ويأتي التعبير على معانٍ عدة بحسب موقعه. و التعريف العام لمفهوم الفساد عربياً بأنه اللهو واللعب وأخذ المال ظلماً من دون وجه حق، مما يجعل تلك التعابير المتعددة عن مفهوم الفساد، توجه المصطلح نحو إفراز معنى يناقض المدلول السلبي للفساد، فهو ضد الجد القائم على فعل الائتمان على ما هو تحت اليد، ليصبح الفساد بمفهومه العام هو التغير من الحالة المثالية إلى حالة دون الحالة المثالية بمعنى التغير للأسوأ.
و هل الفساد عندنا إلا من بعضه في هذه البلاد التي حباها الله بأرض معطاء تنضح بأنفس المعادن و أخصب الأراضي و أغناها بالمياه الجوفية المعدنية، على مساحة شاسعة و شعب قليل العدد؛ ذلك أنه بالنظر المعمق و المجرد من العواطف إلى حالنا في زمن بات يجرنا على قفانا لعجزنا عن مواكبته و السير على وتيرة خطاه، لا بد من الخروج بنتيجة أقل ما يمكن القول عنها إنها لا تبشر على المستقبل، في الأمد المتوسط، بخير و على المستوى السياسي، على المدى القصير، بإسهام الجميع الجاد في بناء الوطن و الحفاظ على وحدة كيانه.
فالتوجه الغالب لمن يولون تسيير زمام أمور البلد و الحفاظ على مقدراته و صرفها في خير البلاد و العباد، هو الفساد بتعريف معجم أوكسفورد الإنكليزي له بأنه “انحراف أو تدمير النزاهة في أداء الوظائف العامة من خلال الرشوة و المحاباة”.
و إذا كان الفساد عندنا يذكر اصطلاحا عاما بدثار واحد لا يوشح به سوى الجانب المتعلق بنهب المتلكات العمومية من منطلق النفوذ، فإن الأمر على الرغم من خطورة هذا الوجه، أعمق و أشمل و أخطر من أي تصور للحالة في واقع الأمر بهذا الوجه وحده. بل إن الفساد بهذا المدلول هو فقط إحدى إفرازات فساد أعمق و أخطر مما هو ظاهر على سطح جلد المجتمع الأجرب المتآكل بفعل تلاحق الآفات و تداخلها. فالمجتمع الموريتاني بات منذ أمد في حل من منظومته الأخلاقية المستمدة قوتها في الغالب من تعاليم دين الإسلام السمحة و تفصيلها بإتقان لضرورات الدنيا و مقتضيات الآخرة. و قديما قال أمير الشاعر أحمد شوقي بك:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
و ليست الأخلاق التي تنظم الأمم و تختط لها طريق الجد و المثابرة و الاستقامة و العطاء و الاباء و الترفع عن الخسائس و الدسائس التي توسوس بها شياطين الفساد، هي المعتمدة عندنا بل أخرى في افتراء صارخ و وقح على الدين و تحد لعمق مقاصده إلي تهذيب و ضبط الأخلاق التي تزكو بها و تسمو النفوس و يصلح بها و يرتفع المجتمع إلى مراتب الفضل.
و إن ما آلت إليه الأمور عندنا من التحلي المريب بالقيم المثلى المشوبة بالنفاق بات أمرا مقلقا لمن يقدرون مخاطر ذلك و يحسبون للتقلبات السيئة و العواقب الوخيمة ألف حساب و حساب و لا يغترون بما تبديه مظاهر الأبهة و محاسن كمال المترفين من المفسدين و أصحاب النفوذ العابر لإدراكهم سرابها و سرعة زوالها.
و هي المسطرة الجديدة التي اعتمدت هنا على هذه الربوع و أدرجت بحيثياتها في سلوك التعامل و كأن ضربا من “اليهودية” قد أصابنا في الصميم لنقبل بأن المتعدي بوقاحة على المال العام هو “بطل ملحمي” بعيدا عن لب الدين و في تعارض مع المسطرة الأممية و روحها التي فتحت أمام شعوب نضجت بكاملها أبواب النجاح المؤمن بدواعي الأمن و الاستقرار من عدل و مساواة و توجه إلى بناء الذات.
و بعيدا عن مظاهر العمل السياسي الشامل في هذه الاستحقاقات و التي تطفو على السطح بكل ما تحمله من رسائل صعبة التشفير، فإنه لا يخفى على أي مراقب تلك الملامح السياسية التي تبدو عليها الأحزاب المشاركة و تلك التصرفات و التظاهرات التي تبين بها الأخرى المقاطعة و ما يظهر به كل المترشحين، و بُعد كل ذلك عن جوهر السياسة الرفيع و شكلها الإيجابي و في مضمون الخطاب الانتخابي بدء بالقناعات و البرامج و انتهاء بالأشخاص و أداء الحملات.
و تبدو ملامح الفساد، على الرغم مما يشاع عن الحملة من تقشف، بارزة في كثرة صور المرشحين و خيامهم الخاوية على عروشها إلا من الأثاث و الطامعين في تعويض الحضور و كثرة الأبواق الصاخبة و تنوع الأناشيد و الأغاني التي تمجد الأشخاص و لا تمر على البرامج و مضامينها في إشارة بارزة إلى أن الأمر يعني أشخاصا دون الرسالة التي من المفروض أنهم حملوا إياها.
و يأتي استعراض المرشحين و هم في الغالب الأعم من الميسورين المُرَشحين باختيار أطرهم الحزبية أو المُرشِحِينَ أنفسهم من عتب و تحد في ردة فعل على إبعادهم لصالح منافسيهم باعتبار أوجه غير التي تنبني على الجدارة و الكفاءة و الوطنية.
فساد سياسي مستشر مرده فساد أخلاقي يزداد استفحالا و يهدد بنسف ما تبقى من مسطرة هذا الشعب الأخلاقية إن كان ما زالت له فعلا في الأخلاق بقية.
كيف التدراك و ما السبيل إلى ذلك؟
سؤال ملح على الرغم من بعده عن الأذهان العارية الشاردة و المتسترة بأثواب الجاهلية البالية المنكرة و الغفلة المقيتة المخيفة و غياب بل و انعدام الروح الوطنية و قصر النظر كالغافل و هو في عين الإعصار