مقالة الإعلامي المغربي ياسيين عدنان حول موريتانيا التي شغلت الساحة الثقافية
26 سبتمبر, 2013
آراء وتحاليل
يحتاج المرء الكثير من الجرأة على الجغرافيا لكي يفعل ما فعلت. عدتُ من نيويورك، وبعد أيام قليلة توزعتُ خلالها بين مراكش والدار البيضاء شددتُ الرحال من جديد باتجاه نواكشوط. هكذا من نيويورك إلى نواكشوط بعد
استراحة قصيرة بالمغرب. منذ المطار تشعر بالفرق وتبدأ سلسلة التناقضات العجيبة. الطائرة التي ستحلق باتجاه موريطانيا على الساعة السادسة وأربعين دقيقة لا وجود لها ولا خبر عنها. لا مكتب هناك للخطوط الجوية الموريطانية في مطار الدار البيضاء. وشاشات مواعيد الرحلات بمطار محمد الخامس تتحدث عن كل الوجهات إلا نواكشوط. لا خبر أبدا عن الرحلة. هل تأجلت؟ هل ألغيت؟ هل نذهب إلى الجحيم ثم نعود غدا. لا جواب. اقتربتُ من شاب كان يجلس مع زوجته في المقهى، حدست من هيأتهما أنهما من بلاد البيضان، فجاذبتهما أطراف الحديث. أخبرني أنه يتنقل كثيرا بين المغرب وموريطانيا وأعطاني رقم سيدة مغربية قال إنها مسؤولة عن رحلات الخطوط الموريطانية. اتصلتُ بها وفعلا طلبت مني أن أطمئن، فالطائرة ستنطلق بحول الله على الساعة الثامنة. قلت لها ولكنها الثامنة إلا عشر دقائق، ونحن لم ندفع أمتعتنا بعد؟ فكيف تقلع الطائرة بعد عشر دقائق. شرحَت لي أنني فهمتها خطأ. فالطائرة ستغادر نواكشوط على الساعة الثامنة وستكون هنا على الساعة الحادية عشرة على أبعد تقدير وإن شاء الله قبل منتصف الليل سنكون قد تحركنا في رحلة العودة باتجاه نوق الشط: نواكشوط.
في الطائرة وجدتُ السيدة المغربية مع الطاقم في استقبال الضيوف. تعرفَتْ علي وصافحتني بحرارة. وهنا اكتشفتُ أنها رتَّبت مع الطاقم وهيأوا لي مكانا في البيزنيس كلاس. كانت التفاتة كريمة منها. الخدمات في الطائرة بسيطة، لكنهم يخدمونك بأريحية. وهذا يخفف على المسافر بعض توتر السفر. جلس قربي شيخ جليل ومعه شابّ في مقتبل العمر. يبدو أنهما التقيا صدفة في الطائرة. فاجأني أن الشاب قبَّل يد الشيخ، ثم جاء ربان الطائرة بنفسه وقبَّل يده هو الآخر. شرحَتْ لي الأخت المغربية أن الشيخ عالم جليل مقامه محفوظ في كل بلاد شنقيط. سألتُها عن اسمه، فقالت إنها لا تذكر اسمه. لكنه يأتي كثيرا إلى المغرب ويحضر بانتظام الدروس الحسنية في رمضان. ما إن أقلعت الطائرة حتى انهمكتُ في قراءة رواية (الأسلاف) للشاعر العراقي الصديق فاضل العزاوي. فيما بدأ الشاب يستظهر أمام شيخه طوال الرحلة أشعار الأسلاف. أنشده لابن الرومي وأبي تمام والبحتري والبوصيري وأنشده قصائد لشعراء من بلاد المليون شاعر لم أسمع عنهم قبل تلك اللحظة. ثم انتقلا إلى “الكَاف” الحساني وكان الشيخ كلما سمع من الشاب شعرا استحسنه علق بصوت مُشرق: “زين حتّى.. زين حتّى”. في المطار فور نزولي من الطائرة أخذني موظف وزارة الإعلام إلى القاعة الشرفية. تكفل هو بالإجراءات. وفي الباب صادفنا حمارا سائبا يجري كأنه يريد اقتحام المكان. هشَّ عليه شرطي الحراسة الذي كان بالباب فعاد الحمار من حيث أتى وهو ينهق محتجا. فيما انطلقت بنا السيارة. انتبهتُ إلى أن الشوارع ليست شوارع بالمعنى التام للكلمة. بسبب الأمطار التي تهاطلت على نواكشوط في الأيام الأخيرة، كانت هناك برك في كل مكان. الطرق مُعبدة لكن الرمال تحتلها. أو أتت مثل أرَضَةٍ على جنباتها. أما الأرصفة فلا أرصفة هناك. أشار لي السائق الى الفندق. فتشاءمتُ قليلا. بعد رحلة متعبة يتمنى المرء أن ينام نوما هنيئا وحالة الشارع المتدهورة لا تبشر بفندق جيد ولا بنوم مريح. لكن يبدو أن التناقض هو عنوان هذه الرحلة. ما إن ولجت الفندق حتى ارتحتُ لأناقته. وإذ ولجتُ الغرفة أُصِبتُ بالذهول. لم تكن غرفة جيدة ولا جناحا عاديا. بل فضاء فخما أشبه ما يكون بجناح ملكي. سرير عريض بفراش وثير يتوسط غرفة نوم فسيحة مفتوحة على صالون واسع يضم أكثر من مجلس. وهناك فضاء آخر فسيح حيث خزانة الملابس مفتوح بدوره على الحمام وعلى غرفة المكتب. يعني شقة فيها كل شروط العيش الفخم المريح. لوَّحتُ لنواكشوط من النافذة: تصبحين على خير، ورحت في سابع نومة. صباح الخير نواكشوط. نوق الشط. أو شاطئ النوق. هكذا عرفتُ من الصديق الشاعر محمد ولد عبدي قبل أن أزور المدينة. لكن صديقا هنا همس في أذني أن كلمة نواكشوط أمازيغية وليست عربية. وهي تعني جزيرة الجن. فالأسطورة تحكي أن المنطقة كانت مأهولة بالجن في الأزمنة الغابرة، وهناك من يعتقد أنها ما تزال “مسكونة” حتى اليوم. لكنني لم أرَ لا نوقا ولا عفاريت. فقط بعض الماعز في الطرقات، وذلك الحمار الحرون الذي اعترض سبيلي وأنا أغادر المطار. لكن في اليوم الموالي سأتعرف على أهل البلد. صديقات وأصدقاء رائعون شيمتهم الكرم والاعتداد الجميل بالنفس. لكن الموريتان عاتبون علينا. سألني أحدهم: لماذا تسموننا موريطانيين وتسمون البلد موريطانيا؟ قلت له: لا تنزعج من طاء المغاربة يا صديقي. إنها طاءٌ مُزمِنة ولا تعنيكم وحدكم. فنحن نسمي التاكسي طاكسي، والأوتوبيس طوبيس والسيارة طوموبيل وهكذا. وعموما من اليوم سأدافع في المحافل المغربية عن تاء أشقائنا الموريتان وجارتنا موريتانيا. خلال الورشات، فاجأني أن الإخوة الصحافيين الموريتانيين لا يجدون أي إشكال في الاسترسال في الحديث الهاتفي أو حتى في التحاور فيما بينهم فيما المحاضرون يقدمون عروضهم. ويتكلمون بصوت مرتفع. ضايقني الأمر كثير. لذا في ورشتي، ما إن رنَّ أول هاتف حتى توقفت. بدأت إذاعية مورتانية معروفة ومحترمة تتحدث في الهاتف. فاستأذنتُ الإخوان في التوقف للحظات إلى أن تنهي الأستاذة مكالمتها لأنه من العيب ومن عدم اللياقة أن أزعجها بالحديث في الميكروفون. الغريب أنها تلقت مكالمة ثانية دقائق بعدها. ومرة أخرى قطعتُ الجلسة في انتظار أن تنهي مكالمتها. أحست الإذاعية المشهورة بالحرج فأوقفت هاتفها وكذا فعل أغلب من في القاعة. وهكذا خلصنا من رنين الهواتف وتواصلت فقرات الورشة بسلاسة. الغريب أن أول من رفع أصعبه طالبا المشاركة في النقاش كانت هذه الإذاعية بالذات. توقعتُ أن تكون عاتبة علي أو محرجة مني، لكن لا هذا ولا ذاك. تدخلت باحترام وأشادت بحرارة بما قدمته وطرحت أسئلة عميقة. يا لطيبوبة الشنقيطيات. يا لقلوبهن البيضاء. أغلب زملائنا الموريتان كانوا يتحدثون باعتداد عن الحراك الذي يعرفه البلد على المستوى الإعلامي حتى أن بلادهم صارت في السنوات الأخيرة تراوح ما بين المرتبة الأولى والثانية عربيا في مجال حرية الصحافة خصوصا بعدما ألغت موريتانيا عقوبة الحبس في المخالفات الصحفية وأنشأت صندوق الدعم العمومي للصحافة الخاصة، وهو ما ترسخ أكثر بتحرير الفضاء السمعي البصري حيث حصلت خمس قنوات تلفزيونية على تصاريح من “الهابا” (هاكا بلاد شنقيط). وهكذا زرنا قناة الساحل التي بدأت البث على “عرب سات” بإمكانات متواضعة لكن بجرأة ورغبة كبيرة في مَرْتَنَة الإعلام السمعي البصري. فيما دخلت قنوات “شنقيط”، “الوطنية”، و”المرابطون” مرحلة البث التجريبي في انتظار التحاق قناة “دفا” للصحفية الجميلة منتان منت لمبارط بهذا الركب. لكن، ولأنني بدأتُ أعتاد على أن المفارقات هي صلب كل شيء في تلك البلاد، لم أندهش حينعلمت فيما بعد أن موريتانيا لا تتوفر على أي معهد للصحافة عموميا كان أو خاصا. وهناك عدد كبير من الصحافيين المُمارسين لم يحصلوا حتى على شهادة البكالوريا. الفندق نظيف هنا في نواكشوط، عاملاته وعماله في غاية اللطف. مدير الفندق من مراكش. الشيف ومعه مدير المطعم مغربيان كذلك. غريب أمر المغاربة، لم يعد يخلو منهم أي فندق أحل به. في نيويورك أعطاني موظف الاستقبال المغربي كود الانترنت الخاص بالموظفين. في المنامة وأبو ظبي حظيت بخدمات استثنائية من مغاربة الفنادق هناك. وهنا في نواكشوط، فيما كان إخواننا الموريتان يُجهِزون على أطباق اللحوم الحمراء كنت أنا وصديقي المحجوب بنسعيد رئيس قسم الإعلام بالإيسيسكو نستمتع بالسمك الطري اللذيذ الذي يقترحه علينا شيف المطعم المغربي. لم نكن نراجع قائمة الطعام. الشيف بنفسه يقترح أطرى ما في مطبخه من سمك. سمك لادوراد الأحمر لا يعلى عليه. لكن من يقول ذلك لأهالي شنقيط؟ إنما حين زرنا ميناء شنقيط ووقفنا على حالته المزرية، تفهمنا أن يتجنب أهل المدينة كل ما يأتيهم من مثل ذلك الميناء حتى ولو كان لادوراد والكمباص. لكن خارج الفندق يجب الاعتراف أن حياة المدينة لا وجود لها تقريبا. غبار ورمال وأحياء عشوائية وشوارع بلا أرصفة. فكرتُ في الداخلة والعيون وبدأت أقارن. يؤسفني أن أعترف بأن البون شاسع. شارع مكة في العيون بحيويته الجميلة في الليل. بمقاهيه ومطاعمه ونظافته. ساحة المشور الفسيحة الممتدة أمام قصر المؤتمرات. إنها معالم مدينة تستحق اسم المدينة. لا أنكر أنني في العيون زرت بعض الأحياء المُهمشة وشعرت بالخجل. لكن مع ذلك هناك مدينة بحد أدنى من التجهيزات وهناك مركز نظيف وحيوي يمكن للمدينة أن تفخر به. ثم ماذا عن الداخلة؟ بشوارعها المبلطة، وكورنيشها الجميل، وفنادقها المفتوحة على البحر، وجلساتها الليلية الأليفة. لا شيء من ذلك هنا. نواكشوط عاصمة طبعا. عاصمة بلد شقيق أكن شخصيا الكثير من المحبة لأبنائه والتقدير لنخبته الفكرية والأدبية. لكنها ليست مدينة. تحتاج صراحة إلى الكثير من الجهد وإلى استثمارات ضخمة لكي تصير مدينة مثل العيون أو الداخلة. في المغرب، في أكبر المدن المغربية وأعرقها، كانت دائما هناك قاعة سينما اسمها “موريطانيا”. رغم أن موريطانيا ليست هوليود ولا بوليود ولا حتى القاهرة. ليست ببلاد شنقيط استوديوهات شهيرة للتصوير السينمائي كما هو الحال في ورزازات. وفي كل نواكشوط -وطبعا في كل موريتانيا- لا توجد هناك ولو قاعة واحدة لعرض الأفلام. فما سر التسمية؟ لا سر هناك، فقط تلك العشوائية المغربية الغريبة في اختيار التسميات والتي سبق للشاعر سعد سرحان أن التقطها في نص جميل. فالمغرب هو البلد الوحيد في العالم الذي يمكن أن تعثر فيه على مجزرة الأمل ومحلبة الدِّيكة ومقهى الأعداء وحانة الإمام الشافعي. لذلك اتفقت أكثر عن قاعة في أكثر من مدينة مغربية على موريطانيا اسما وعنوانا، وبالطاء من فضلكم. في مراكش، كانت سينما موريطانيا بحي القصبة أرخص قاعة في كل المدينة. وكانت تبث فيلمين في الحصة الواحدة: هندي وكاراتيه (كنا نسميه كاراطي بالطاء دائما. الطاء المغربية الشهيرة). لأجل ذلك كنا نغادر بيوتنا بعد غداء سريع متعجل ونركض من عرصة الملاك حتى القصبة. في الطريق خصوصا في رياض العروس كنا كثيرا ما ننط لنتسلق الكوتشيات التي تجرها الأحصنة باتجاه ساحة جامع الفنا ونلبد هناك في الخلف دون حراك. لكن بعض الفضوليين المتطوعين من المارة لا يلبثون أن ينبِّهوا صاحب الكوتشي. “آ اشحط اللور”. كانت هذه كلمة السر ليرسل السائق سوطه الطويل باتجاهنا فيلهب أجسادنا بضربات طائشة. أحيانا تصيب الظهر وأحيانا تصيب الرأس أو حتى الوجه ما لم يكن الواحد ممن يجيدون الانكماش. ياه، كم كانت الطريق إلى موريطانيا شاقة تلك الأيام. لكن يبدو أن الطريق إلى موريتانيا شاقة دائما. في الليلة الأخيرة دعانا الأخ حمود ولد امحمد رئيس السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية في موريتانيا (الهابا) إلى رحلة إلى البادية. تجولنا بين الكثبان الرملية البيضاء. الكثبان تغير لونها تماما مثل حرباء في تلك المَهامِه. فهي مرة صفراء ومرة بيضاء. لكننا فضلنا الكثبان البيض. دعانا الأخ حمود لنشرب لبنا عند أحد الرعاة. لكن الرجل تأخر علينا. بدأت الشمس تغرب والراعي لم يصل بعد إلى مضاربه في الصحراء. بدأنا نضجر قليلا، لكن الصديق المحجوب بنسعيد وهو ابن الصحراء المغربية أسرَّ لي أن الراعي لن يأتي إلا بعد أن يحل الظلام. فهو الآن كامن في مكان ما ينتظر “العتمة”، فالرعاة في تلك الديار لا يدخلون بإبلهم في واضحة النهار خوفا عليها من العين. وفعلا عادت الإبل من مرعاها البعيد. لم نرها بسبب الظلمة، لكننا شربنا لبنها الحلو الطري الساخن الذي تعلوه كمية كبيرة من الرغوة. في طريق العودة، كان هناك شباب منتشرون في تلك الفدافد، ركنوا سياراتهم جنب الطريق واتخذوا لأنفسهم مجالس بين الكثبان أو قرب المراعي الخضراء. لقد غادر الصيف وهلَّ الخريف، والجو في نواكشوط آسر في المساء والليل. وليس هناك ما هو أجمل من هواء البادية. لذا يخرج الشباب إلى الصحراء للسمر والفرفشة. ولكأن الكبار يغبطونهم على متعهم الصغيرة ولهوهم البريء غبطة قوية جعلتهم يطلقون عليهم فيما يشبه الاستهجان لقب “خنافس الخريف”. في نواكشوط، تتجاور ملاحف البيضان ودراعياتهم مع الأزياء الإفريقية المزركشة. تتجاور اللغات واللهجات: عربية، حسّانية، بولارية، سنوكية، وولفية. فيما تتحرك الخنافس سعيدة بين الكثبان. بسبب المطر الأخير بدت الرمال هادئة منضبطة والكثبان هامدة مثل قطط أليفة. والسماء كأنها انسحبت بنجومها وقمرها لتفسح المجال للغيوم. هل ستمطر غدا؟ لا أظن. لكن نواكشوط تحتاج الكثير من المطر. مطر يصعد من تحت هذه المرة. مطر يفجره أبناؤها ويحرسونه من الجحيم لتصير المدينة جديرة بأهلها الطيبين وزوارها على قلتهم، جديرة بتاريخ شنقيط ورفعة أهل شنقيط. وسواء كانت نوق شط أو جزيرة جن وعفاريت، فهي عاصمة بلد شقيق وتستحق أن يحولها أبناؤها إلى مدينة
نقلا عن موقع 28 نوفمبر
|