عشت بعضا من أعياد العرش ،في حياة المرحوم محمد الخامس،وأنا طفل سعيد ؛ لا أميز بين أعيادي اليومية وأعياد العروش والملوك. فرحتي المؤرخة بقيعة بلاستيكية وطنية ،لن أنساها،هي فرحة الاستقلال .فرحنا به فقط،في البادية،لأن الكبار تملكهم أيضا مس من السعادة لم نكن نعي أسبابه.
هذا الوالد –أطال الله عمره- لم يكن ينتبه الى أنه يجب أن يعايش صغاره باستمرار؛فكان أن ارتفع صرح المهابة والتوقير،لنتفرغ كلية لحنان الأم ،رحمها الله،نرتوي منه حتى الثمالة.
فجأة انشرحت أسارير القابع خلف الصرح،وهو يُصبحنا بقبعات حُمر يضعها فوق رؤوسنا،ويستغرق في الضحك ،وهو يرانا متحيرين من هذا الذي يحدث. أَوَيقهقه حتى هذا الأب الجلمود الصارم؟
يالها من أيام خالية، شهدت ميلاد الوطن الجديد بأسارير منشرحة وبأحلام شاسعة شساعة الخريطة.
ثم كبرنا ،وتوالت حبات السبحة؛أعياد عرش تترى ،ستظل مقترنة ،في ذاكرتي اليافعة ،وكل الذاكرات التي أعقبتها -في ملكية المرحوم الحسن الثاني – بالاستعدادات الطويلة لها ؛إلى درجة شل الحياة الدراسية،الصارمة، كلية لتبدأ الفوضى السعيدة للمؤسسات.
يتكسر الزمن التربوي ،وترتدي الحياة المدرسية أثوابا بهية ،ولا هية، غير أثوابها ،وتتحول الفصول،على مدى أسابيع، إلى ركح لسائر الفنون الاحتفالية،استعدادا لليوم الوطني للعرش، حيث سيحضر،إلى المؤسسات “سادة الأمجاد’ و”سادة البلاد” ،كما يقول النشيد ألترحيبي،الذي يحفظه الجميع ،ليوقعوا شهادة هدر قرابة شهر من زمن التحصيل المدرسي .
وعلى مستوى آخر ترسخ خطاب العرش ، نصا ملكيا مؤسسيا وتقييميا ،يشد انتباه المواطنين ،ويحملهم على الوقوف وقفة تأمل سنوية ؛ينسون فيها اليومي ،الفردي ،ليفكروا الوطن:فيه وله ،من الداخل ومن الخارج.
لم تُدرس بعد،حسب علمي،نصوص العرش السنوية الحسنية،دراسة تحليلية عميقة لمضامينها ،ومقارنتها بالسياق السياسي العام للبلد ،بكل نجاحاته وإخفاقاته،للوقوف على نبض،وذاكرة
ملك ،وهي تفكر الوطن وتقوده.
لعل خطب العرش تشبه جذع الشجرة ،وهو يحكي ،من خلال طبقاته المتراصة ،تاريخ الشجرة ،وتاريخ الماء الذي سقاها، والأملاح التي غذتها.
ستظل بنيوية النص العرشي اختصاصا ينتظر من يتصدى له ؛وهو ليس ترفا فكريا بل مكونا أساسيا من مكونات الهندسة السياسية التي تمتد – بقناطرها- الى سائر مجالات التدبير.
لعل النتائج الأكاديمية لهذا التخصص ستنقل خطاب العرش من سلطة الموروث المخزني، المتعالي و الآمر،الى الملامسة العلمية الدقيقة للشأن السياسي وسائر اشتغالا ته التدبيرية الإستراتيجية.
لا أنجع من خطاب عرش سياسي أكاديمي،واقعي و صارم، لحمل جميع الفرقاء على استنفاذ الجهد والاجتهاد في التنزيل ؛تحت عنوان دستوري كبير :”ربط المسؤولية بالمحاسبة.
الدكتور محمد السادس يدشن خطاب العرش الأكاديمي:
لماذ تفضيل هذه الصفة ،في هذا المقام ،على صفة الملك الرسمية؟
لأن محمد السادس ،حسب قناعاتي،هو الملك الذي نحا منحى جديدا في الاحتفال بعيد العرش.منحى المواطن العادي، الذي ينضم الى سائر المواطنين في احتفالاتهم بهذا العيد ؛بعيدا عن البهرجة الزائدة والتكلف.
يبدوا لي ،بهذا ،ملكا لا يزيده العيد شيئا على ما هو عليه من علاقة متواضعة،لكن راقية ،وميدانية،مع المواطنين ،وسائر الفرقاء الفاعلين في سياسة البلاد.
هذه المواصفات ،وهي نادرة جدا في تاريخ السلاطين والملوك،جعلت خطاب العرش ،كما استمعنا اليه جميعا،ينحو صوب الأكاديمية في مقاربة المفاصل الكبرى لتدبير البلاد،وليس حكمها فقط.
أكاديمية، نعم، لكنها مؤسسة على دراية عميقة بكل قضايا الوطن، بفضل منهجية القرب ،والوقوف ليس على التقارير ،فقط،صدقت أو زيفت،وإنما على الأوراش الكبرى ،وهي تخطوا عبر معارج الاكتمال.
لقد تغيرت مناحي خطاب العرش ،لكننا نحن ،كمواطنين،لم نتغير بما فيه الكفاية ؛ما زلنا نجلس أمام الشاشة ،ونستمع إلى خطاب جديد ،منهجا ومضمونا،لكن بذهنية قديمة،شكلتها تراكمات عرشية مخزنية قديمة.
ما زلنا ننتظر الفتوحات العليا لخطاب العرش ،ونقيس الاستفادة الفئوية منه؛دون أن ننتبه الى أن المتحدث ،يتحدث من الورش الكبير ؛ويتجول بنا عبره محرضا لنا على المشاركة ،وليس الانتظار السلبي. أتذكر أننا ،كمعلمين ذات زمن ،لم نكن ننتظر غير اللحظة التي يصرف فيها المرحوم الحسن الثاني فعل “زاد”. في الأجور طبعا.
هذه الذهنية ،وهي عامة ، لا تزال تحكمنا ونحن ننتظر خطاب العرش.
ان خطاب العرش اليوم يبحث عن مستمعين فاعلين ،يستحضرون درجة حضورهم في الورش الوطني المفتوح أمامهم.
هذه ليست مجاملة من كاتب متواضع ،فزمن المداحين الكسابين ولى. إنها الحقيقة؛وحينما تروج هنا وهناك ،بعد الخطاب، “ما كال والو” فاعلموا أن القائل “ما اسمع والو”؛أو كان متربصا بمنفعة فئوية ،لم يدرك أنه هو من عليه أن يصنعها لنفسه.إن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة.
لقد غدا خطاب العرش مرآة يرى فيها كل مسؤول ،وكل مواطن وجهه ،ويحدد موقعه ضمن مواقع الورش الكبير. انه تقرير سياسي علمي دقيق عن حالة وطن ،وهو يشتغل .وطن بحاجة الى كل أبنائه.
هنيئا لنا جميعا بعيد ،عيده الوطن ،نحبه جميعا ،إذا تداعى فيه عضو تداعت له سائر الأعضاء.
وفي اعتقادي أن على كل مسؤول مقصر،وسياسي انتهازي -وهو يعلم ذلك،ويملك أن يتغير ولا يفعل- أن يخجل من ملك عطوف على الجميع،مجتهد في أدائه ، اسمه محمد السادس.
Ramdane3@gmail.com
Ramdane3.ahlablog.com