في قلب آسيا الوسطى .. انتشار مظاهر الإيمان ومشاعر الاطمئنان

أعتقد أن زيارة دولة مسلمة في قلب آسيا الوسطى، بعد أن أحرزت على استقلالها سنة 1991 وانفصلت عما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي، لها طعم خاص، تعيد الزائر إلى استحضار قرون مضت، وإلى قراءة ثانية للتاريخ الإسلامي، وإلى اكتشاف الروح الإسلامية الحـق عند السكان على الرغم من عجـمتهم، وإلى اعتزازهم بدولتهم ومؤسسها وصانع مجدها.

أوزباكستان بلـد متـسع الأطـراف يضم مجموعة من الأقاليم، منها بخارى وسمرقند والعاصمة طشقند وخوارزم وفرغانة وغيرها. واشتهر من علمائها البخاري والنسائي والترمذي والبيروني والخوارزمي والزمخشري، وغيرهم من العلماء الذين ساهموا في الحضارة الإسلامية واشتهر أمـرهم بما خلفوه من آثار علمية على مـرّ العصور.

أوزباكستان بلد غني بأراضيه الفلاحية، ومنـتوجاته الـقـطـنية، ومعالمه الحضارية. يفاجَأ زائر مدنه بروائع الفن الإسلامي في كل الأبهاء والأنحاء، فالمساجد والمدارس العلمية العتيقة تحكي حرص الشعب الأوزباكستاني على تمثل الحضارة الإسلامية في عهود سابقة، كما أن الاعتزاز بمؤسس الدولة تيمورلنك (1336 ـ 1405م) القائد الطاغية، صاحب المجازر الوحشية في البلاد الإسلامية، لا يخلو منه حديث المرشدة السياحية، (ومن يقرأ التاريخ الإسلامي يتعرف إلى مظالم هذا الغازي وتقـتيله للمسلمين وتخريب ديارهم).

لكن المهم أن سكان أوزباكستان يرون فيه مؤسس دولتهم؛ فهو حاضر في كل مكان، يروي أخباره المنشطون السياحيون وأصحاب المدارس العتيقة بفخر واعتزاز، ينتصب تمثاله في الساحات العمومية رمزا للدولة، تذكرتُـه وتذكَّرتُ قوته وبأسه عندما هاجـم البلاد العربية والإسلامية، وخـرب المدن والبلدان، تذكرته ولقاءه بعالم الاجتماع المؤرخ ابن خلدون عند حصاره لدمشق، إلى غيرها من الأحداث التي عاشتها المنطقة العربية في القرن الثامن الهجري.

ولعل الظاهرة المثيرة للانتباه في هذه الجمهورية التي تشبَّع أبناؤها بروح الإسلام كثرة المساجد، ويسميها السكان المسجد الجامع، حيث تقام الصلوات فترى الحشود من السكان يتسابقون لأداء الفريضة بخشوع وإيمان. وفي هذا الإطار، فقد أدينا ــ وفد الرحلة ــ صلاة الجمعة في المسجد الجامع بطشقند العاصمة الإدارية للدولة، واستأذنَتْ المرشدة السياحية إمام المسجد بالسماح لنا نحن النساء المغربيات بأداء الصلاة في ركن قصي من الجامع فوافق على ذلك؛ إذ لا تشارك النساء في هذا البلد في أداء الصلاة في الجامع.

وبالإعلان عن صلاة الظهر بأذان رخيم يبعث في النفس راحة وطمأنينة، ألقى الخطيب خطبتي الجمعة بلغة البلاد لم نفهم منها غير الاستشهاد ببعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تلقى بلغة عربية سليمة، ومن ثم استوعبنا موضوع الخطبتيـن من خلال الاستشهادات. وتمت صلاة الركعـتين بتلاوة السورتين بلغة عربية، مما يدعـو إلى الإعجاب بهذا الشعب المؤمن الذي لا يعرف من العربية إلا الآيات القرآنية وبعض الأحاديث النبوية.

والزائر إلى أي جامع سيلاحظ براعة الفنان الأوزباكستاني في النقش والزخرفة، حيث تـمَّ نقش الآيات القرآنية على أبواب الجامع وقبابه بخطوط بديعة باللغة العربية لتحكي براعة مدهشة في فن الزخرفة والنقش بألوان متناسقة زاهية، وهو ما لمسناه عند زيارة العديد من المساجد في أغلب المدن التي زرناها، ومن مرافق بعض المساجد المدارس العتيقة أو القرآنية كما يسمونها، وتُعنَى بالتعليم الديني الثانوي، وهي على شكل المدارس المرينية حيث يحظى التلاميذ والطلاب بنظام داخلي، فيوفـر لهم السكن والمأكل، تشجيعا لهم على متابعة الدروس الدينية باللغة العربية، ويمكن للمتخرج في هذه المدارس أن يلتحق بالجامعة ويتابع دراسته بالكلية الشرعية، كما أن هذه المدارس تهتم بإعداد الأئمة والوعاظ.

وتتميز المدن العتيقة التي زرناها بأسواقها الشعبية المنظمة، منها معارض الصناعات اليدوية (الخشبية والنحاسية والأواني الفخارية وغيرها)، ومعارض للتحف وأخرى للمطروزات والملابس التقليدية والمناديل الحريرية والمفروشات المطرزة التي أبدعتها أيادي النساء، فهي عنوان حضارة كما تتحدث نساء المدينة.

أما الزرابي المحلية زاهية الألوان فمتعددة الأشكال والرسومات حسب المناطق التي تنتمي إليها، ويعجب المرء بالأسواق المركزية، فهي وسط الساحات العمومية، تـنتظم في محلات تجارية في أجمل ترتيب وتوزيع، منطقة للخضر والفواكه، وأخرى للحوم والأسماك، وهذه للفواكه الجافة التي تشتهر بها البلاد، وتلك للأجبان والمعلبات، وكل المعروضات الخاصة بالمعيشة تغريك بالاقتناء وتدعوك إلى المقارنة بين السوق الشعبي بأوزباكستان والسوق الشعبي في بلادنا، إذ لا مجال للمقارنة !!!.

أما الحدائق العمومية فهي متنـفس السكان في كل بلدة، طشقند، سمرقند، بخارى، كِـيفَـا وغيرها، يشعر المرء وهو يتجول في هذه الحدائق الخضراء برقي الشعب الأوزباكستاني على الرغم من الفـقـر الذي يعاني منه، فالنظافة هي الطابع العام، ولا أحد يعبث بجداول المياه التي تـترقـرق بهدوء فتنعش الأغراس والأشجار، إنها حضارة غير معلنة لشعب بسيط يحب بلاده ويحافظ عليها.

من المدن الساحرة بخارى التي تضم أضرحة عديدة للملوك السامانيين ولغيرهم من مريدي الطريقة الناقشبندية، وهي من المراكز الإسلامية والعلمية منذ الفتوحات الإسلامية الأولى، وتشتهر بعلمائها ومنهم الإمام البخاري (ت 256هـ) والشيخ الرئيس ابن سينا (ت 428هـ) والخوارزمي (ت 232هـ) وغيرهم. كما تشتهر المدينة بجمال أخاذ من حيث عمرانها ومرافـقها وبساطة أهلها وترحيبهم بزوار مدينتهم كما كانوا يعبرون بذلك للمرشدة السياحية التي ترافـقنا.

تشتهر المدينة بمآثرها العمرانية وكتاتيبها القرآنية ومساجدها، وأشهرها المسجد الجامع بأبهائه الواسعة وجدرانه وسقوفه وقد خطَّ عليهما من الآيات القرآنية بنقوش بديعة ما يثير الدهشة والإعجاب، وما يذكي في النفس جذوة الصحوة الإسلامية في منطقة نائية يؤمن أبناؤها بالإسلام وبالرسالة المحمدية، وإن تعذر عليهم الحديث معك باللغة العربية، فإنهم يبذلون جهدا للتواصل من خلال بعض الطلبة الذين يدرسون العربية في المسجد أو الإمام الذي يعتبر المسؤول عن المسجد والمدرسة في آن واحد.

ولعل أهم معلمة يمكن الحديث عنها في بخارى هي ضريح الإمام بهاء الدين النقشبندي (717 هـ 791هـ)، الذي يبعد عن المدينة بحوالي عشرين كيلومترا، وهو مؤسس الطريقة النقشبندية الشهيرة، زيارة الضريح مفاجأة لنا من حيث البناء والعمارة، وعدد السياح الذين يتوافدون لزيارة الضريح من مختلف الجنسيات يدعو إلى الإعجاب، كما أن سكان بخارى كما يذكرون يتوافـدون على الضريح للتبرك.

وقد ذكرت المرشدة السياحية أن السكان يعتبرون زيارة الضريح حجاً لهم، وقد حضرنا جلسة للذكر في واحد من أبهاء الضريح. فبعد تلاوة آيات بينات من القرآن الكريم بلغة عربية سليمة، انبرى فقيه الضريح للحديث إلى البخاريين الذين انتظموا في شكل بديع وبنظام وهدوء في هذه البهو، ينصتون بخشوع إلى حديث الإمام الفقيه، ومفاده العبرة من هذه الزيارة والدعوة إلى التقيد بمبادئ الدين الإسلامي. وانفض الجمع بحمد الله وشكره على نعمه والصلاة على نبيه المصطفى عليه السلام. كانت لحظة خشوع عشتها وغيري في هذا الضريح النقشبندي الجميل الواقع وسط حديقة مزهرة جميلة.

وقد علمت أن الضريح الذي يضم جثمان الإمام النقشبندي أقيم في بستان بيته، ثم عمل مريدو طريقته الصوفية على بنائه وتشييده، فهو بستان متسع الأطراف، يمكن الاستمتاع بمرافقه وبخضرته؛ إذ يتجمع العديد من الزوار في حلقات لتبادل الرأي أو الأكل والشرب، غير أن ما يثير الاستغراب أن بالحديقة متسعة الأطراف شجرة كبيرة ذات خضرة وبهاء وذات فروع ملتوية كثيرة، يطوف حولها السكان وأبناؤهم الصغار سبع مرات في فرحة وخشوع، ويضعون نقودا فوق أغصانها، وهي في رأيهم، كما تذكر المرشدة السياحية، شجرة مباركة يعدل الطواف بها حجا لأن السكان لا يستطيعون الذهاب إلى مكة لأداء الشعائر الدينية، وهم بذلك يعتقدون الرمزية في الحج. وقد استمتعنا بهذا المنظر الديني كما في اعتقاد السكان وببهاء المكان في الوقت نفسه.

وإلى جانب الضريح، زرنا مقبرة كبيرة قيل إنها تضم قبري رفـاة ابنين منحدرين من سلالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، تتم زيارتها بالأداء، وهي مقبرة واسعة ممتدة وفي منتهى النظافة، كما أن هذه المقبرة تضم قبورا كثيرة. وكما في المعتـقـد، فالمدافن بها للتبرك بحفدة الصحابي الجليل أبي بكر الصديق، وقيل إنها مدينة المقابر، وتتميز كذلك بالنقوش والزخارف والكتابات القرآنية على لوحات القبور مع الإشارة إلى اسم صاحب القبر وسنتي ميلاده ووفاته.

وأجمل ما في هذه المناطق التي تعتبر سياحية بامتياز أن أبناءها جهدوا في تهييئ بعض المدارس التقليدية لاستقبال الزوار، بها يتناولون وجبات الغذاء ويشربون كؤوس الشاي، وينتظمون جلوسا في حلقات كما هو الشأن في الشرق العربي، ولعل المسؤولين عن السياحة في البلاد يقصدون إلى إنعاش مثل هذه المناطق اقتصاديا، فـزائر ضريح الإمام النقشبندي لا بد وأن يتناول طعام الغذاء بالمدرسة العتيقة القريبة.

والنقشبندي الأوزباكستاني هو غير الشيخ سيد محمد النقشبندي المصري (1920 ـ 1976)، أستاذ المداحين كما يوصف، ولعل نسبته تعود إلى فرقـته الصوفية التي تعرف بالنقشبـندية، نسبة إلى بهاء الدين النقشبندي سابق الذكر، وهو صاحب الابتهالات والأناشيد الدينية الشهيرة.

ومن بخارى أخذنا الطائرة عبر الخطوط الداخلية إلى مدينة طشقند، وهي العاصمة الإدارية لأوزباكستان بعد استقلال البلاد عن الاتحاد السوفياتي سنة 1991، وهي محطة على طريق الحرير من الصين إلى أوروبا. وكما تذكر المرشدة السياحية، فهي مدينة قديمة أسست منذ ألفي سنة، وهي تحكي قصة الشعب مع حاكمه الفارس المتربع على جواده وسط الساحة العمومية تيمورلانك “1328م ـ 1405م / 728هـ ـ 807هـ”.

تتميز المدينة بساحاتها الواسعة والنظيفة، وبمرافقها الإدارية المتعددة، وبجامعها الكبير وسط المدينة، وبمدارسها القرآنية ومتاحفها وقصورها وكذلك بعلمائها، وقد سعدنا بلقاء أحد المشرفين على إحدى المدارس القرآنية فحدثنا بلغة عربية سليمة مؤكدا حرصه على تعليم الشباب اللغة العربية وتمكينهم من حفظ القرآن الكريم والحديث النبوي وأشعار العرب، وأن الناس متشبثـون بالدين الإسلامي وبتعاليمه، ويكفي أن يعلن المؤذن عن الصلاة لترى جحافل السكان يتسابقون إلى أقرب جامع لأداء الصلاة، أما يوم الجمعة فيلاحظ ما لصلاة الظهر من قدسية حيث يمتلئ الجامع بمختلف الطبقات الشعبية، كبارا وصغارا، لكن الملاحظ، وكما حدثنا بعض السكان وكما تأكد لنا في طشقند، أن المرأة ليس لها حضور في الجامع (كما سبقت الإشارة إلى ذلك).

كانت الشركة المؤمنة للرحلة على قدر كبير من الدهاء والتنظيم؛ إذ عملت على أن ترتب لنا تناول وجبات الغذاء والعشاء في مطاعـم مختلفة، منها المطاعـم الشعبية وسط المدينة، ومنها المطاعم الراقية في أحياء مختلفة، مع ما يتحفنا به الفولكلور الأوزباكستاني من حين إلى آخر من موسيقى وأغان ورقصات شعبية، نـتـنـسم فيها رائحة الشرق، سواء تعلق الأمر بالآلات الموسيقية أو الرقصات العفيفة أو باللباس التقليدي للمغني أو المغنية.

ومن طشقند قصدنا مدينة سمرقـنـد، العاصمة السابقة للبلاد إلى غاية 1930، وهي مدينة متسعة الأرجاء، كثيرة المعالم التاريخية الموزعة في أماكن عديدة، وأشهر ساحاتها ساحة الاستقلال التي يوجد بها مرقـد تيمورلانك وأولاده، ويتميز بقبابه وزخارفه وحناياه المزخرفة بنقـوش وآيات قرآنية وأحاديث نبوية بخطوط عربية جميلة.

وتذكر المرشدة السياحية أن رفاة تيمورلانك دفن في متحف خاص به سنة 1941 بعد العثور عليه وأصبح مزارا للسياح وللشعب. وللإشارة فهو قائد عسكري قوي يتحدث عنه السكان بكثير من التقدير والإعجاب. وصف ابن بطوطة هذه المدينة في رحلته فقال: “من أكبر المدن وأحسنها وأتمها جمالا، مبنية على شاطئ واد يعرف بوادي القصارين، وكانت تضم قصورا عديدة، وأغلبها شيّده تيمورلنك”.

ولعل سمرقـنـد مدينة صناعية؛ إذ زرنا مصنعا للزرابي الحريرية، وهو مصنع كبير ومتنوع، به أشكال كثيرة لأنواع الزرابي الحريرية بأثمنة خيالية، وبه المئات من الفتيات السمرقنديات اللائي يحسن نسيج الزرابي بألوان ورسومات جميلة، ويتـفـنن في ذلك. وباعتبارنا زوارا سائحين، دعانا مدير المصنع إلى زيارة قسم المبيعات الخاص بالمعروضات من الزرابي والمناديل والإشربات الحريرية، وهو معرض جميل ومنظم، لكن الأثمنة مرتفعة، ولعل المبيعات للتصدير فيما يظهر، لأن ابن البلد لن يستطيع التسوق من هذا المصنع لغلائه ولضعف القوة الشرائية عنده.

النظافة شيء مذهل في هذه البلاد، سواء في الساحات العمومية كساحة المقاومة أو في الأزقة والدروب الضيقة أو في ملاعب الأطفال وغيرها، وعن الخضرة لا تسل، والحدائق العمومية بنافـوراتها وألوانها الزاهية خاصة ليلا، حيث يستأنس السكان مع بعضهم وهو يتمـلّون سحر جمال المناظر الطبيعية في هدوء وراحة. كما أن احترام هذه الحدائق من طرف الجميع، وبصفة خاصة الأطفال الذين يمارسون أنشطتهم البريئة باحترام الأغراس والأشجار، يؤكد أن للشعب نزعة حضارية على الرغم من مستواه المعيشي البسيط كما لاحظنا في زياراتنا للعديد من المدن، شعب يحب بلده ويحافظ عليه ويطمح إلى ارتـقـائه من خلال سلوك أبنائه الحضاري.

أما ليالي سمرقند، فقد هـيّـأ لنا منظمو الرحلة سهرات ممتعة في مطاعم تقليدية حينا وعصرية أحيانا أخرى، على نغمات أغان شعبية متنوعة، وبآلات عصرية أو تقليدية كما سبقت الإشارة. كما أن الفسح ليلا كانت ذات طعم خاص وسط الساحات العمومية والأنوار الساطعة، وفي إحدى الجولات الليلية فوجئنا بحفل زفاف قريبا من الفندق الذي نقيم فيه، فلم نتردد في دخول الفندق الذي يوجد به الحفل، فالموسيقى تعزف أرق الألحان، والضيوف في أبهى الحلل، والعروسان في منصة مزينة بالورود والزهور، المشروبات والحلويات، وأصناف من المأكولات الشعبية، إلخ، لم أجد أي فرق بين تنظيم الحفل في مغربنا في الوقت الحاضر وبين هذا الحفل، وكان الاحتفاء بنا كبيرا مما ترك انطباعا طيبا عند الجميع.

في مدينة موسكو عاصمة الاتحاد السوفياتي

وتحضيرا للرحلة من المغرب كان اقـتراح زيارة مدينة موسكو واردا، مادامت المسافة قريبة إلى حد مَّا من سمرقند، لذلك كانت الرحلة إلى موسكو لاكتشاف بعض معالمها ومآثرها، وقد قضينا فيها ثلاثة أيام لم تكن كافية على الإطلاق لمعرفة هذه المدينة، ومع ذلك فـقد سعدنا بزيارة أهم معالمها، فزرنا الساحة الحمراء ومعناها “الجميلة”، وهي ساحة ممتـدة الأطراف، مرافق عديدة، متاجر متنوعة إلى غير ذلك.

كانت وسيلـتـنا لزيارة الساحة الحمراء ركوب الميترو، وكنا نـتـنقل من محطة إلى أخرى عبر السلالم الكهربائية، وكانت حشود ركابه متعددة الجنسيات، ولا أحد يفهم ما يقول الآخر، وسيلتنا خريطة ومرشد سياحي ينبه ويوجه خوف انفلات أحدنا أو ضياعه، فكان كل واحد منا يمسك بالآخر نظرا للاكتظاظ ولاتساع المكان وتشعب الممرات، إلى أن نصل إلى المنطقة المرغوب في زيارتها.

والزائر إلى مدينة موسكو لا بد أن يركب متن الميترو ذي الفضاءات الشاسعة والمنافذ العديدة، فهو يتكون من سبع طوابق، كل منفـذ يعبر إلى منطقة معينة، وكل طابق يأخذك إلى جهة ما، أما أسقفه ومبانيه فـمدهش أمرها؛ زخارف ونقوش تبهر النظر وتحكي ما لفـن الرسم والتشكيل من أدوار في خلق فضاء جميل يبهج ويريح، ألوان زاهية، لوحات جدارية فسيفسائية رائعة تعتمد تطريز الخرز لتمثل مشاهد من الحياة اليومية في روسيا، ثريات تزين أنفاقه وممراته، أما قباب الميترو فيخيل إليك أنها قباب قصر مشيد بما تحفل به من رسوم وزخارف في تناسق بديع.

يذكر المرشد أن الزعيم ستالين هو الذي أنشأه عام 1935، وأن الرئيس الأمريكي رولاند ريجان انبهر بضخامته وبديع عمرانه وقال عنه: “ميترو موسكو أعجوبة تحت الأرض”، فهو فعلا تحفة فنية ومعمارية، يضم أروع اللوحات وأجمل التماثيل. استغرقنا أوقاتا طويلة للانتقال من منطقة إلى أخرى صعودا ونزولا، في نظام مدرسي خوف الضياع، وكان المرشد لبيبا ومساعدا وهو يوجه وينبه في الوقت نفسه بوجوب اتباع تعليماته وإرشاداته.

الساحة الحمراء في موسكو تشهد بما للسياحة من دور في التعريف بمآثر البلدة، عالم عجيب تشكله هذه الساحة التي لا أثر للون الأحمر فيها، ومعناها الساحة الجميلة، أشكال من المطاعم المغرية بالاستقبال، وهي ساحة شاسعة الأطراف، متعددة المرافق، متاجر متنوعة، مطاعم في كل ركن وجهة، أكشاك كثيرة لبيع المنتوجات الفلاحية الروسية من مناطق وجهات روسية مختلفة وأخرى لبيع التحف وألعاب الأطفال، ومحلات صغيرة لبيع الآيس كريم الذي تصطف الطوابير لشرائه، وأخرى لبيع الزيت والعسل وغير ذلك.

فالساحة شهيرة وروادها كثر من جميع الأجناس، قد يضيع المرء فيها إذا لم يتمسك بمرافـقيه، وهي تخضع لمراقبة الشرطة بحزم ونظام. تكاد تكون هذه الساحة مدينة سياحية للراجلين، بما تحفل به من حركة دؤوبة للسياح وغيرهم، فلا يشعر المرء بالتعب وهو ينتقل وسطها بين المطاعم والمتاجر وجداول الماء الصناعية التي تغري بالجلوس في جنباتها والاستمتاع بمشاهدة الحركية التي تعرفها الساحة طول النهار.

وعلى الرغم من قـصر الأيام التي خصصت لنا لزيارة موسكو، فقد حرصنا على زيارة أهم المعالم في المدينة وأهمها. لم تفتنا الفرصة لزيارة قصر الكرملين؛ وذلك بعدما قضينا وقتا طويلا في صفوف متراصة لشراء التذاكر، فالازدحام على أشده، بعد الحصول على التذكرة ستكون زيارة حديقة القصر هي بداية الجولة، أما القصر فيصعب وصف أبهائه ومتاحفه وحدائقه وطبقاته، من ذلك المتحف العجيب الذي يضم أروقة مختلفة تحكي قصة حضارة الإمبراطورية الروسية، عن نظام الحياة في القصر الإمبراطوري: أواني مائدة الطعام، كؤوس بلورية، صواني وغيرها.

كل تلك المعروضات في دواليب زجاجية منظمة بشكل بديع، وهناك جناح خاص بألبسة الإمبراطور المختلفة المدنية، وكذلك بألبسة النساء الأميرات: ألبسة المناسبات، ألبسة الرياضة، ألبسة مختلفة. وهناك قسم خاص بالمجوهرات التي كانت تستعملها سيدات القصر، وكذلك أوسمة الإمبراطور المتعددة، ولباسه الحربي، الفارس الروسي على فرسه بلباس الحرب، عربات مختلفة الأشكال من القرون 12، 13، 14، 15، 16، 17. على كل، متحف متميز ورائع، حافظ به الروس على حضارتهم وعلى أنماط عيشهم عبر العصور، والملاحظ أن الحراسة مشددة على كل جناح، وأن التصوير ممنوع. وقد استغرقت زيارتنا إلى القصر أزيد من أربع ساعات لكننا لم نتمكن من زيارة كل المرافق، لأن تنظيم زيارة الأفواج محكم، فالمدة محددة، ولا مجال للنقاش.

وكان ختام هذه الرحلة سهرة ممتعة في قاعة سينمائية تابعة للـفندق، وهي أيضا بالأداء وبالأفواج، كان علينا أن نشتري التذاكر مسبقا لضمان مقعد في القاعة السينمائية، وكذلك كان. ماذا يمكن أن نشاهد خلال ساعة ونصف؟

كانت مشاهدة ممتعة من خلال شريط سينمائي يحكي قصة تطور فنون الرقص الوطني الروسي عبر قرون، لوحات فنية حية قدمتها فرق رقص متعددة على أنغام موسيقية صاخبة حينا وهادئة أخرى، رقصات شعبية، رقصات دينية، وأخرى حربية على نغمات طبول الحرب في تشخيص عجيب يبعث على الانبهار بما يقدمه الراقصون والراقصات في خفة ومهارة، وكان للأزياء على اختلافها وإشراق ألوانها دور في نجاح هذه اللوحات البديعة التي تستعرض ما للشعب الروسي من حذق في فنون الرقص الوطني، وكانت سهرة ممتعة حقا بسحر جمال الأداء وإبداع الراقصين والراقصات في تقديم صور صامتة عن رحلة هذا الفن في بلاد روسيا، وحتى لا يخرج المشاهد خالي الوفاض من هذه السهرة الممتعة، فما عليه إلا أن يشتري قرص الحفل الذي يعرض في بهو الاستـقبال وهو منشرح راض بما سيدفعه من روبلات مهما بلغت قيمتها.

تتميز العاصمة موسكو ببناياتها الشامخة وكنائسها العديدة ومتنزهاتها وحدائقها مترامية الأطراف، وشوارعها الفسيحة، وفنادقها الفخمة، وهي العاصمة الإدارية والاقتصادية والتجارية لروسيا، وأشهر معالمها التاريخية كما سبقت الإشارة الساحة الحمراء وقصر الكرملين، والميترو العجيب الذي ينبهر الزائر لرؤيته ومشاهدته، فهو معلمة فريدة في موسكو، ووسيلة نقل راقية وسريعة في عصر الانفجار السكاني، كما أنه تحفة فنية رائعة بطوابقه وما تشتمل عليه من زخارف ورسوم ونقوش وفسيفساء وثريات وغيرها، لقد تفوقت موسكو على غيرها من الدول الغربية والأمريكية في تشييد هذا البنيان الفريد في عصر التكنولوجيا والأنترنيت

شاهد أيضاً

السلطات في مالي تعلن مقتل قيادي بارز في إحدي الجماعات المسلحة

أعلن التلفزيون الرسمي في مالي، اليوم الثلاثاء، مقتل قيادي بفرع تابع لتنظيم “داعش” في غرب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *