29 أبريل 2024 , 20:55

حرية التعبير… وحرية التعبير / د. أنيس فوزي قاسم

انس

إن الاعتداء الإجرامي الذي وقع في باريس يوم الأربعاء الماضي ضد مجلة «شارلي إيبدو»، وبغض النظر عن الأسباب التي كانت وراء ذلك الاعتداء، هو جريمة إرهابية بكل ما تعنيه هذه الكلمة وما تحمله من مدلولات قانونية وسياسية
والإرهاب هو الإرهاب، سواء وقع في فنادق عمان، أو في جبل محسن في طرابلس او على مدارس الأونروا في غزة أو ضد «شارلي إيبدو» في باريس. إلاّ ان ما هو لافت للنظر هو هذا التجييش الذي قاده الرئيس الفرنسي، حيث كان على رأس مظاهرة من ثلاثة ملايين شخص ومشاركة أربعين شخصية من ملوك وزعماء وقادة، بمن فيهم ـ وللعجب- بيبي نتنياهو الذي حضر المظاهرة في حملة انتخابية، بينما دماء أطفال غزة لازالت على يديه. ونشرت الحكومة الفرنسية على نحو غير مبرر أو مفهوم هذه ألآلاف العديدة من الشرطة والجيش، وتمّ تخصيص ألآلاف الاخرى لحماية المدارس والمؤسسات اليهودية، مع ان الاعتداء على «شارلي إيبدو» لم يكن يستهدف يهوداً او مسلمين او مسيحيين، بل كان يستهدف مجلة أساءت للرسول محمد بنشر صور كاريكاتورية له. ودق الرئيس الفرنسي طبول «حرية التعبير»، كما كان يدق رؤساء امريكا المتعاقبين على طبول «انهم لا يحبوننا»، لذلك يستهدفون (الارهابيون) «نمط حياتنا وديمقراطيتنا»
وقد ساير الرئيس الفرنسي العديد من قادة الرأي العام والجماهير الغفيرة فيفرنسا من أن «حرية التعبير» هي التي أصبحت مهدده على يد الارهاب، ولم يقل لنا الرئيس الفرنسي، كما لم يقل لنا رؤساء امريكا قبله ، لماذا «حرية التعبير» في السويد، مثلاً، لم تتعرض لما تعرضت له «شارلي إيبدو»، ولم تتعرض فنلندا، مثلاً، او «نمط حياتها» لهجوم إرهابي؟
لقد سبق لمجلة «شارلي إيبدو» ان نشرت صوراً كاريكاتورية للرسول محمد، اخذتها عن رسومات نشرتها صحيفه دنماركية عام 2006، وأقامت مؤسسة فرنسية اسلامية دعوى ضدها، الاّ ان محكمة بداية باريس رفضت الدعوى، وايدتها في ذلك محكمة الاستئناف
إن القوانين الفرنسية مليئة بالنصوص التي تحرم اثارة الكراهية بين مكونات الشعب الفرنسي، أو اثارة النزعات العرقية والدينية. ونذكر ان الممثله الشهيره بريجيت باردو أدينت للمرة الخامسة من القضاء الفرنسي لإثارتها مسائل تحضّ على كراهية المسلمين، حيث قالت «ان هؤلاء الناس [المسلمين] يجروننا من أنوفنا وانهم يدمرون بلادنا». وقد عرفت بريجيت باردو بعدائها للاسلام والمسلمين. ومع ذلك، فان القضاء الفرنسي ذو تاريخ طويل في التوسع في حماية حرية التعبير وذو حساسية عالية حين تعرض عليه قضايا تمس حرية التعبير، ذلك ان الفقه الفرنسي يعتبر حرية التعبير من أهم مقومات الدولة الفرنسية وركنا من أركانها. ومن يطالع سجل القضايا امام المحاكم الفرنسية يلحظ فوراً انه في العديد من القضايا التي اقامتها مؤسسات كاثوليكية (وهو المذهب السائد في فرنسا) ضد منتجي أفلام تعرضت للسيد المسيح وللسيده العذراء ولمسائل دينية تمسّ معتقدات الدين المسيحي والمذهب الكاثوليكي، رفضتها المحاكم باستمرار وإصرار
ومع ذلك، وربما كانت فرنسا اول الدول التي شرعت قوانين تمنع الطعن او التشكيك او تتحدى مقولة ان النازية ارتكبت جرائم ضد الانسانية، وذلك يشمل طبعاً الحديث عن المحرقه التي لطخت وجه تاريخ اوروبا، وفرض القانون، المسمى بقانون «جيسو» على اسم عضو الجمعية الفرنسية (البرلمان) الذي اقترح القانون، غرامة تصل الى 45000 يورو وبالسجن لمدة سنة على كل من يخالف هذا القانون. وفي عام 2007 صدر حكم قضائي ضد كاتب فرنسي طرح تساؤلات حول المحرقة النازية. ولا تستقل فرنسا بهذا الموقف، بل تبعتها اكثر من سبع عشرة دولة اوروبية تبنت تشريعات مماثلة، ولا سيما ما يتعلق بالمحرقة النازية
وهنا يحق لنا ان نتساءل: اين ذهبت حرية التعبير التي صانها المشرعون والقضاة الفرنسيون لأكثر من مئة وخمسين سنة؟ أليس في هذه التشريعات والاحكام انتهاك صريح وواضح لحرية التعبير؟ إن حق البحث والتنقيب والدراسة في ملفات التاريخ أصبح سمة من السمات الاساسية للحرية الاكاديمية، لأن للباحث حرية تفكيك طروحات او مسلّمات قائمة وإعادة تركيبها، وهذا لا يتم بدون حرية البحث والتنقيب والقيام باختبارات ودراسات مقارنة وطرح تساؤلات وإجراء تجارب ورصد طروحات سابقة مع ملاحظات تطرأ في ما بعد. هذه هي أداة التطور الوحيدة في المجتمعات، وهذه الحرية الاكاديمية انتقلت بباريس – على سبيل المثال- من مدينة تسبح في دمائها الى ان اصبحت «عاصمة النور»
ولماذا استهدف المشرع الفرنسي تحصين جرائم النازية بالذات بينما هي اشدّ الجرائم الحاحاً لدراسة اسبابها ومن ساهم فيها واشترك في تخطيطها، لاسيما وانها جرائم لم يسبق لها ان حدثت في التاريخ وهي اشدّها توحشاً؟ ومن هو صاحب المصلحة في لجم «حرية البحث والتعبير» حين تطرح قضية جرائم النازية؟ من المؤكد ان ذلك ليس لمصلحة النازية.
إن العديد من الكتاب والباحثين، يهوداً وغير يهود، إسرائيليين وغير إسرائيليين كمثال، كتاب نورمان فنكلشتاين «صناعة الهولوكوست»، بدأوا منذ زمن في طرح تساؤلات حول المحرقة، ومن ساهم فيها. وقد سجلت حنا ارندت، وهي التي راقبت محاكمة ايخمان في اسرائيل، فضائح التعاون النازي الصهيوني حيث كان ايخمان هو مهندس تلك العلاقه مع مسؤولي الوكاله اليهودية. وهناك من كتب رسائل دكتوراه في الجامعة العبرية حول الموضوع ذاته. وتجدر الإشارة ايضاً الى ان الرئيس محمود عباس كتب اطروحة الدكتوراه حول هذا الموضوع بالتحديد، ونال عليها شهادة الدكتوراه من موسكو ونشرت بالعربية عام 1984. فكيف تكون هناك حرية تعبير في نقد المذهب الكاثوليكي ورسم صور كاريكاتورية للرسول محمد، ولا تكون «حرية تعبير» هنا في البحث عن جرائم النازية، والجرائم التي ارتكبت ضد الانسانية؟ وأين الحرص القضائي الفرنسي بين حرية تعبير وحرية تعبير
واذا وجد المشرع الفرنسي، ومن ورائه المشرعون الاوروبيون، تبريراً في تجريم التشكيك في الجرائم ضد الانسانية، التي ارتكبت اثناء الحرب العالمية الثانية، ولم يجدوا في ذلك انتقاصاً من حرية التعبير، أليس من المناسب استصدار تشريع يحرم المسّ بالمعتقدات الدينية والانبياء، واعتبار ان ذلك لا ينتقص من حرية التعبير كذلك؟ لاسيما وان تجريم المس بجرائم النازية هي مسألة زمنية دنيوية، ولا تحظى بالقداسة التي تحظى بها الرموز الدينية، ولا تستفزّ المشاعر كما تثار عند التهكم على نبي او على كتاب مقدس؟ ألا يدرك المدافعون عن حرية التعبير انه يوجد في العالم حوالي مليار ونصف المليار مسلم، ولا توجد سلطة مركزية تدير هذا الكم الهائل من المؤمنين، الذين ينتشرون من اندونيسيا الى المغرب، فضلاً عن الدول الاوروبية والامريكية، وانه يمكن لفئة منهم ان تشعر بالمهانة من ان نبيّها ومعتقداتها تهان باستمرار، ولابدّ ان «تثأر» لكرامتها بدون تفويض او تخطيط، بل بمبادرات فردية؟ وبعد كل ذلك، فإن من قام بهذه الجريمة هم فرنسيو المولد والتربيه ولا أحد يسأل ماذا فعلت بهم فرنسا حتى تحوّلهم الى إرهابيين؟
محام فلسطيني مقيم في الأردن

شاهد أيضاً

تواصل والخيارات الصعبة!محمد فاضل ولد المختار

تتجه الأنظار حاليا إلى موقف حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية “تواصل” من الانتخابات القادمة، بوصفه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *