
خلال الفترة ماقبل زيارة صاحب الفخامة رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني لولاية الحوض الشرقي، تناعقت الغربان، وتهامس النمامون، وأوغل القتّاتون، واستنسر البغاث، وتمخضت الجمال، فجاءت الزيارة قاطعة للألسن، وسادّة للآذان، وواضعة الكل في نصابه الطبيعي، وجاهضة لكل حمل غير مرغوب.
لقد شكلت الزيارة ـ لمن يحسن قراءة الإشارات في ضوء المعاني ـ لحظة إزاحةِ ستارٍ عن مرحلة جديدة، تُعاد فيها هندسةُ العلاقة بين الدولة ومحيطها، وبين السلطة وناسها، وبين هيبة النظام ومنطق الفوضى.
ففي كل محطةٍ من محطات الزيارة، كانت البلاد تتلمّس ـ دون تصريح ـ تحوّلا هادئا، يشبه حركة السحاب الرزين: لا يُسمَع له هدير، لكنه يُخصب الأرض حين ينزل.
أول الإشارات تمظهرت في نبرة الحرب على الفساد، نبرةٌ لا تتعالى على الناس، ولا تنحدر إلى الشطط.
فالرئيس بدا كمن يوازن بـ”ميزان الذهب” بين محاسبة المفسدين وبين حماية الأبرياء من تجنّي الخصوم أو غلوّ المشكّكين.
فكانت تلك الإشارة بمثابة تحريرٍ لمعنى العدالة من سطوة الاندفاع، وإرجاعها إلى أصلها: الانتصار للحق دون ضجيج، وتقويم الاعوجاج دون كسر الأعناق.
ولعلّ في التذكير بصمت الرئيس الدائم عن الانفعال دلالة على أن الحرب على الفساد ليست “حفلة صخب”، بل هندسة صامتة يجري فيها تقليم الفروع اليابسة، دون الإضرار بجذع الدولة الراسخة.
الإشارة الثانية كانت في العلاقة مع القبيلة؛ فمنذ أن أطلّ الرئيس على سكان الحوض الشرقي، بدت القبيلة كأنما يُعاد تعريفها من جديد: من كيانٍ نافذٍ يرسم اتجاهات السياسة، إلى رافدٍ اجتماعيٍّ محترمٍ يرفد الدولة لا يبتلعها.
وهنا بدا الرئيس كمن يستخدم مِبضع الجراح: لا يجرّح العصب، ولا يسمح للطرف الآخر أن يتمدد خارج حدّه.
إنها إشارة إلى أن الزمن السياسي الجديد يُسدل الستار شيئًا فشيئًا على فوضى الولاءات، لصالح دولةٍ تريد أن تكون “الأب الجامع”، لا “المضيف الذي يستجدي بركات الأعراف”.
أما الإشارة الثالثة فكانت في طريقة تعاطيه مع أصحاب الأجندات الشخصية؛ فقد ظهرت خلال الزيارة حدودٌ جديدة، غير مكتوبة، تُرسم حول أولئك الذين جعلوا من مصالحهم الخاصة منابر للضغط أو عتبات للابتزاز.
الرئيس ـ وما خلف كلماته الحازمة ـ بدا كما لو أنه يستخدم مفهوم (الانضباط الكوني) ؛ حيث تُعاد كل كتلة إلى حجمها الطبيعي، وتُطفأ كل رغبة في التمدد خارج المجال الحيوي للدولة.
إنها إشارة لمن أراد الفهم؛ أن زمن “التوغل تحت الطاولة” انتهى، وأن الدولة أصبحت مصفاةً محكمة؛ لا يمر عبرها إلا ما نُقّي من شوائب الأطماع.
ثم جاءت الإشارة الرابعة، الأعمق والأكثر صرامة؛
إشارة إلى أن الملفات كلها ـ صغيرها وكبيرها ـ تحت نظر القائد، وتحت “كونترول” لا يغفل ولا يسهو.
وفي هذا التذكير ما يكفي ليفتح أعين المتطاولين الذين ظنوا أن البلاد غافلة، أو أن الصمت ضعفٌ،
غير أنهم نسوا حكمة العرب: “غضبة الحليم نارٌ لا تُرى عند اشتعالها، ولا تُطفأ عند اندلاعها.”
وما يُفهم من هذه الإشارة أن الرئيس ـ رغم هدوئه ـ ليس في وارد التساهل حين يتعلق الأمر بسيادة الدولة، أو بأمن المجتمع، أو باستقرار البلاد.
الإشارة الخامسة تعلقت بصورة موريتانيا نفسها كما عكسها الرئيس خلال الزيارة: دولةٌ قوية بلا صخب، مهابة بلا استعراض، تحسن إدارة حق الجوار دون أن تتخلى عن شروط السيادة وعن مرجعيات الأمن القومي.
لقد حمل الرئيس إلى تخوم الحدود رسالة صامتة مفادها أن موريتانيا ـ رغم هشاشة الإقليم ـ تقف بثباتها التاريخي؛ تمد يد العون لجيرانها حين يضيق بهم الحال، ولا تسمح ـ في الوقت ذاته ـ لأي ظرف خارجي أن يختبر صلابة أمنها.
وأخيرًا.. كانت هناك الإشارة الأعمق: أن رئيس الجمهورية، حيثما حلّ، فهو في مأمنه؛ ليس لأنه محاط بالحماية، بل لأن الأرض التي يمشي عليها مؤمنةٌ به، من الشرق إلى الغرب، من الحدود الرملية إلى ظلال القصر الرمادي.
إنها إشارة إلى شرعية مطمئنة لا ترتجف أمام العواصف، وإلى عقد ثقة متبادل بين القائد وشعبه، لا تهزه ضوضاء السياسة اليومية، ولا تعكره حملات التشويش.
أحمد ولد الدوه
إعلامي مهتم بالشأن السياسي
المرابع ميديا – al-maraabimedias موقع "المرابع ميديا" التابع لوكالة المرابع ميديا للإعلام والإتصال