19 أبريل 2024 , 18:06

التراد سيدي يكتب : صرخة في واد بين صم ومغفلين !!!

إن أكثر  أحداث التاريخ لابد لها من مقدمات وإرهاصات تؤشر وتحدد احتمالات توقع الصيرورة والمآلات الدالة على حدوثها انطلاقا من تفاعل العناصر التي تشكل حركة الواقع أفعالا وأقوالا وحركات متدرجة، فالذين يمكنهم إدراك حركة الواقع و تحسس تأثره بالمحيط ، من أولي النهى المتمتعين برهافة الإحساس ودقة الملاحظة من المشتغلين بالشأن العام والذين  يستطيعون استشراف الواقع وإدراك حركيته هم القادرون على التدخل في تطور الأحداث وتعديل بعض المعطيات وبعض النتائج وتوجيه الأمور ضمن مسارات أكثر خيرية وتجنب وتحاشي الكثير من السلبيات  والمخاطر والتخفيف لأقصى حد ممكن من تأثيرها وشرورها!!
ولكن أحيانا كثيرة يعمي الله البصائر ويحرم الجميع  من التوفيق وينعدم لديهم التدبير فتتطور الأمور بسرعة أو دون أن تنال اهتماما مناسبا من المعنيين، فتحدث الحوادث وتتطور الأمور إلى أقصى مدَياتها بلا ضابط ولارابط ، ويحدث الذي يحدث مما لم يكن متوقعا وكأنه يأتي بعفوية وتلقائية لا مكان فيهما للتدبير والتخطيط، وإن كان الأمر ليس كذلك!!! …
ففي صدر الإسلام عندما بدأت بوادر الردة والنكوص في الجزيرة العربية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم رأى الصديق رضي الله عنه ببعد نظره وعمق تفكيره وبتوفيق الله له ،أن منع الزكاة يشكل نقضا لأسس الدين الحنيف الذي جعل التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج أركانا وأسسا لاتفترق ولايقوم الدين ببعضها دون بعض ، ولم يلتفت الصديق رضي الله عنه ، إلى الذين لم يروا الامتناع عن الزكاة ردة ومنهم بعض كبار الصحابة، وكان ذلك قبل إعلان الناكصين ، الردة واضحة صريحة من طرفهم ،  فلقد جنب الصديق وصحبه بموقفهم المبدئي الحازم  الإسلام مأزقا كاد يودي به في مرحلة من أكثر مراحله حساسية ، واستمر الصديق وخليفته عمر الفاروق وبالتعاون والتشاور مع صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم جميعا يدبرون الأمور طبقا لنهج صاحبهم وإمامهم عليه السلام وبذلك تم إنقاذ الإسلام من كمين أعد له وذلك بتوفيق من الله وببصيرة وعقل خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم !!!
وفي فترة عثمان رضي الله  عنه، ذو النورين جامع القرآن ومجهز جيش العسرة وصاحب المآثر والمناقب الكبرى ، بدأت الأمور تضطرب في الأقاليم ويكثر فيها القيل والقال حول ولاة الخليفة وعماله ؛ وبدأت نذر الأحداث والحوادث واضحة جلية، وكان في إمكان القادة الكبار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار لو تعاونوامع الخليفة عثمان رضي الله عنهم جميعا على تقويم الأمور والوقوف دون استمرار التدهور حتى الوصول إلى ماحصل بمحاصرة الخليفة ذو النورين في داره و الدخول عليه وقتله الأمر الذي سبب فتنة أكثر خطرا وتأثيرا فيما جرى على الإسلام بعد ذلك من تمذهب واختلاف في الرؤى مما كان للردة التي حدثت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم .
لقد كان ذلك في نظرنا بسبب عدم مواجهة الفتنة و وأدها في مهدها قبل استفحالها لكن مشيئة الله شاءت غير ذلك.
وأثناء حكم الأمويين الذي استمر أكثر من قرن لاحظ بعض عقلائهم زحف انقلاب جديد وتحدث بعضهم  كنصر بن سيار وآخرين محاولين لفت نظر الحكام فلم يستطيعوا ولم يلتفت إليهم أحد، فقامت ثورة العباسيين وتمت تصفية حكم بني أمية، وبعد ذلك في الأندلس وبعد قيام حكم قوي في مناطق إسبانيا والبرتغال وقيام صروح للعلم والأدب وفي كل المجالات بدأ الوهن والانشغال بالترف والصراع على الحكم  وامتلاك القصور والجواري والتمتع بمباهج الحياة والتفنن في أشكال النعم وتنافس الجميع بالمدح والحمد بمالم يفعلوا وإغداق العطايا للشعراء واستدرار إقراضهم أشعار تخلد مآثرهم وأمجادهم وقوتهم التي لم تكن موجودة بالفعل!!
وفي نفس الوقت الذي كان ملوك الطوائف والإمارات الإسلامية يتنافسون ويتنعمون برغد الحياة، ويغطون في نومهم العميق كان أعداؤهم خلف الحدود يعدون العدة التي ستقضي عليهم بعد ذلك القضاء المبرم ولم يكن تطور الأدب والعلم والفنون ليشكلوا أدوات تعبئة وتقوية وحماية من الزوال وإنما كانوا كأنهم غير موجودين ولا تأثير لهم وزالت تلك الصروح التي شيدت في تلك البلاد.
ولم يكن الوضع في المشرق العربي أحسن حالا فدولة العباسيين لم تستمر قوتها بعد ثامن خلفائهم وإنما أصبح خلفاؤهم بعد المتوكل خليفة المعتصم أصبح الحكم سلسلة من التآمر والتنازع بين مجموعات تمارس الحكم باسم الخلافة العباسية وهي تارة فارسية وتارة كردية أو تركية أو خليطا من العرب والأقوام الأخرى وصارت تقوى وتضعف في فوضى مستمرة لايستمر فيها إلا حياة القصور وغناء الجواري وذكر الخليفة على المنابر وممارسة السلطة من أعوان السلطان وقبائلهم وأعوانهم وعندما غزى هولاكو المغولي بغداد وقتل أهلها وسبا الأموال وحرق المكتبات وألغاها في نهر دجلة استبقى الخليفة ليدله على مكان كنوزه وأمواله، وعندما رأى هلاكو أكوام الذهب التي كان الخليفة يحتفظ بها قال له ساخرا ومحتقرا -وكان صادقا فيما قال- لو انفقت هذه الأموال على جنودك لدافعوا عنك وحموك من هذا المصير ، وأمر بأن يوطأ بالأقدام حتى الموت..
ففي كل مكان وفي كل زمان ترتبط تطورات الأحداث وتأثيراتها النافعة والضارة بوعي الإنسان ونشاطه لوقف تطور الأحداث وسرعة تأثيرها في الواقع أو وقف أحداث وتطورات وتغيير وجهتها ؛ فلقد كان انغماس الاندلوسييون في الدعة والرخاء والتنافس بينهم والتنازع و التخلي عن الوحدة والاخذ باسباب القوة والمنعة النفسية والمادية أكبر الأثر في أحياء امل أعدائهم الواقفين على حدودهم ينتظرون الفرصة للأنقضاض عليهم كما حدث بعد ذلك  ؛ ولقد كان لتدخل جيوش المرابطين الذين قدموا عليهم بعد الأستنجاد بهم دورا رئيسيا في رد الأعداء وتقوية الوضعية وتأخير المصير الفاجع الذي تعرضت  له الجزيرة الخضراء  بعد ذلك فاستقر الوضع مئات السنوات، لقد ضاعت الاندلس نتيجة نقص وعي الحكام وسوء تدبيرهم ونقص نظرهم في الوقت الذي لم ينقص العلم والعلماء ولا الشعر والشعراء، ولقد كان لتراخ وضعف وانحلال الحكم في بغداد وفي الشام أكبر الاثر على فتح الابواب واسعة مشرعة للغزو التاتاري المدمر والذي بفضل التصميم والعزم الذي ابداه سيف الدين قطز المملوكي تم وقفهم وهزيمتهم في معركة عين جالوت ٢٥ رمضان ٥٥٨ هجرية ٣ سبتمبر ١٢٦٠ ميلادية؛ لقد أوضحت معركة عين جالوت التي عانا قطز أشد المعاناة في التعبئة والإعداد لها بسبب الخوف الذي أصاب العالم الإسلامي كله من قوة التتار وشدة بأسهم ووحشيتهم لكنه استطاع هزيمتهم بحزمه وعزمه ووعيه!!
إن الهزائم والانتصارات كلها وليدة الحالة التي تكون عليها الأمم عندما تكون الغفلة والتراخي وسوء التدبير يكون الجو مهيئا للأنحدار والتخاذل والضعف وعندما يكون الوعي والحذر والحزم والعزم يكون الثبات والنصر ؛ فكل التاريخ يؤكد على هذه الحقائق سواء نظرنا إلى الأحداث الكبرى كالغزوات التاريخية والحروب الكبرى أو نظرنا إلى أحداث محدودة من تاريخ الأستعمار والغزوات والحروب المختلفة ،
إن حالة بلادنا موريتانيا اليوم، تشكل مثالا لحالة شعب تسيطر عليه الغفلة، وقصر النظر لقياداته وساسته وأهل الرأي والتوجيه فيه، فاستمرار عدم تسوية نقص الوحدة بين العرب والزنوج، واستمرار عدم الاهتمام بتقوية الوحدة المبنية على ترسيخ العدالة والمساواة بين مكون العرب بفئاتهم المختلفة ؛  يعني التفريط في استقرار الوضع وترسيخ التضامن والتعاون والتفاعل المفيد الصادق، القادر على توجيه الجهد كله نحو صراع الإنسان مع مشكلاته ومتطلبات ترقية وضعه بدل الأنشغال في الصراع بين الإنسان وأخيه وهدر الطاقات فيما لا فائدة منه؛ إن قبول المجتمع بعقلائه وغيرهم وقبول القادة وأهل السلطة باستمرار وضع لاحراطين ( العرب السمر) شبه منبوذين يحتلون مكانة دونية ، لايملكون الحق في التزاوج مع من كانوا سادتهم في الماضي ومن يحافظون على اعتبار أنفسهم سادة المجتمع وقادته ، وإن استمرار هذا المجتمع يعتبر الأعمال اليدوية والكثير من النشاطات والمهن من اختصاص الاحراطين ومن يماثلهم في المكانة يؤكدأن الحالة العقلية لهذا الشعب تنذر بأسوء العواقب إذ لابد من أن تسود المساواة سواء تمت بقبول المجتمع جميعا واتفاقه أو تفرض بالقوة وعبر صراع لايبقي ولايذر !!
والذي يبدو ان القادة الذين بدؤوا يشعرون بحاجة الوضع لتصحيح يغير ما عليه تسير الأمور ، إلا أنهم غير قادرين على التغيير بسبب إحاطتهم بجهلاء مغفلين يستمرؤون حالة الأمتياز الموروث من الماضي ويعتقدون بإمكان استمراره، وإن الأكثرية من الفئة العربية المتمتعة بمكانة ورثتها من الماضي تعتقد ان ليس هناك شيء يستحق العلاج وأنهم ماداموا تخلوا عن الرق فليس هناك مشكلة أخرى!! وهذا الموقف يحتاج التغيير ب١٨٠ درجة أو أكثر لأن المساواة شيء آخر يجب التفكير فيه!!!
فعدم إنهاء حالة اللا مساواة بين مكوناتنا لن تستمر بعد الآن ولن يستمر الأمن والاستقرار والسلام ما لم يعالج هذا الوضع غير الطبيعي وغير المعقول وأية جهة من السلطة أو من قادة الرأي لم يدرك هذه الحقيقة ويعمل بمقتضاها فسيحكم عليه التاريخ بالجهل والغباء وتضييع شعبه والتسبب فيما لا يمكن علاجه، فمن يرى أن لاحراطين (العرب السمر) والصناع التقليدين ( لمعلمين) ،والفنانين (إيغاون) ،وغيرهم من المجموعات شبه المحتقرة سيظلون يحتلون هذه المكانة الزائفة والغريبة فإن جهله وغفلته تخدعه فلن يمكن استمرار ظلم بهذا الحجم وإذا لم تعالجوه فسيعالجه من يعاني منه، وإذا لم تكونوا عونا له على علاجه فستكون في مواجهته وستهزمون أشر هزيمة  لأن على الباغي تدور الدوائر ولأن لن يصح إلا الصحيح شئنا ذلك أو ابيناه!!!
التراد سيدي

شاهد أيضاً

تساؤلات من مراقب !!!/ التراد ولد سيدي

في ظروف توالد وتكاثر المبادرات التي يتنافس فيها الآخيرون مع الاولين في إظهار ولائهم الحقيقي …