
هيمنت الولايات المتحدة الأمريكية على المنظومة الدولية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، الذي انهارت معه المنظومة الاشتراكية، فاسحًا بذلك المجال أمام سيطرة المعسكر الليبرالي بزعامة القطب الأمريكي؛ لكن بدأت تتشكل من جديد ملامح مغايرة للنمط القديم للنظام الدولي الذي ساد خلال ثلاثة عقود، من خلال بروز بعض القوى الصاعدة في آسيا وأوروبا.
تبعا لذلك، تطرقت ورقة بحثية،منشورة في مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة لحيثيات الملامح الجديدة للنظام الدولي الذي نعيشه أطواره الأولى، موردة أنه “مع الانسحاب التدريجي للولايات المتحدة الأمريكية من مواقع سيطرتها المختلفة حول العالم، يُثار تساؤل رئيسي حول مستقبل النظام الدولي المقبل”.
وفي إطار الإجابة عن هذا التساؤل، يناقش بيتر زيهان، مؤسس مؤسسة زيهان الجيوسياسية، ونائب الرئيس بمؤسسة ستراتفور لأكثر من اثني عشر عامًا، في كتابه المُعنون “أمم متفرقة.. التكالب على القوة في عالم غير محكوم”، كيفية تغير النظام الدولي، بالتزامن مع تحولات القوى الكبرى الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية. وفي الكتاب، يطرح الكاتب تصورًا مستقبليًّا للنظام الدولي الجديد.
إلى ذلك، قالت ياسمين أيمن، كاتبة المقالة، المعنونة بـ”مستقبل تحولات القارة في ظل فوضى النظام الدولي”، إن “زيهان يجادل بأن العالم قد تمتع بمكاسب غير عادية عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، ويرجع ذلك بصورة رئيسية إلى النظام الدولي الذي ترعاه الولايات المتحدة الأمريكية، والذي يسمح بالتبادل التجاري الآمن بين الدول، حيث يرى الكاتب أن التجارة الحرة ليست مجرد تبادل للسلع والخدمات، بل هو شبكة عالمية من التحالفات، يحكمها نظام إداري عالمي”.
وأضافت الباحثة في العلوم السياسية أن “زيهان يوضح أن الولايات المتحدة قد عقدت تحالفات مع دول عديدة؛ من بينها ألمانيا واليابان. وقد استمر عدد الدول المتحالفة معها في الازدياد حتى انهار الاتحاد السوفيتي في عام 1991، فانضمت دول الكتلة الشرقية الشيوعية إلى دول الكتلة الغربية الرأسمالية. ولحقتهم الصين التي أرادت تحقيق مكاسب اقتصادية من الاندماج مع الاقتصادات الرأسمالية، فحدث توازن واستقرار عالمي، مخلفًا وراءه ممرًّا تجاريًّا آمنًا ومنظمًا بين دول العالم”.
لكن الكاتب يرى أن سقوط الاتحاد السوفيتي السابق قد ثبّط من عزيمة الولايات المتحدة على الحفاظ على النظام الدولي، وفقاً للمقالة، كما ساعدت طفرة النفط الصخري الأمريكي في تقليل حاجة واشنطن من الحصول على نفط منطقة الشرق الأوسط، حيث لم تعد تهتم بالحفاظ على استقراره بصورة كبيرة كما كان في السابق.
لذا، يرى زيهان أن النظام الدولي الذي هيمنت عليه الولايات المتحدة الأمريكية قد ولّى، حسب المصدر عينه، ويشير إلى أننا بصدد نظام جديد تحكمه المنافسة بين أمم صغيرة بآسيا وأوروبا. وأكبر شاهد على هذا هو إدارة الرئيس دونالد ترامب، التي هي بمثابة انحراف واضح عن مسار السياسة الأمريكية المعتاد.
ويَذكر الكتاب أيضا أن الولايات المتحدة -بمساندة الدول المتوافقة مع سياستها- قد استطاعت تأمين العالم من عدم حدوث حرب عالمية ثالثة، يكون السلاح النووي أحد وسائلها؛ لكنها اليوم لم تعد مستعدة لتقديم الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي للدول في حال احتاجت له.
وزادت الباحثة بالقول: “يُضيف الكاتب أن السنوات الأخيرة أثبتت فشل السياسة الخارجية الأمريكية، ويعزو زيهان ذلك لتركيز الولايات المتحدة على تطوير أدواتها العسكرية بشكل أكبر من أدواتها الدبلوماسية ومساعداتها الاقتصادية التي تقدمها للدول منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، وهو الأمر الذي جعل سياستها الخارجية ضعيفة مقارنة بدول أخرى”.
وبناء على ذلك يجادل زيهان بأن عام 2020 هو العام الفاصل لزيادة كراهية الولايات المتحدة الأمريكية وسياستها الخارجية على مستوى العالم، مشبهًا إياه بعام 2003 عندما سقط العراق في يد الاحتلال الأمريكي، مخلفًا وراءه كراهية عالمية لأمريكا وممارساتها؛ لكنه يرى أن تراجع الهيمنة الأمريكية عالميًّا هو أمر إيجابي على المستوى الأمريكي الداخلي، حيث سيمكّنها من إعادة بناء ذاتها، وتطوير قدراتها الداخلية، وسد نقاط العجز بمؤسساتها.
وبشأن ملامح الاضطراب، يُشير زيهان في كتابه إلى ملامح الاضطراب في النظام الدولي، حيث يرى أن التحالفات لن تستمر بدون مجابهة تهديدات متنوعة، وفق ما أوردته الباحثة، ويذكر أن الاتحاد الأوروبي معرض للتفكك نتيجة زيادة نقاط الخلل في مؤسساته، حيث ستتراجع مكانة ألمانيا داخل الاتحاد، مفسحة المجال لفرنسا للقيام بدور أكبر، ويَعزو هذا إلى امتلاك باريس جيشًا عسكريًّا قويًّا ومتطلعًا، مما سيُكسبها مزيدًا من النفوذ العالمي، فتهمين على الوجود الألماني. ويتحدث عن ضعف بريطانيا تدريجيًّا في أعقاب خروجها من الاتحاد الأوروبي، وأنها ستتحول إلى تابع لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية.
ويقول زيهان إن الاقتصاد الصيني ضعيف لأنه قائم على نظام اقتصاد الفقاعة، وهو ما يجعله معرضًا للتدهور، في ضوء انسحاب الولايات المتحدة من تأمين الممرات التجارية، وضعف الاقتصاد الصيني القائم على التجارة العالمية، ومن ثم عدم قدرتها على التحول إلى قوة عسكرية عالمية. ولذلك، يرى أن على الدول الاستعداد للاعتماد على الذات في النواحي التصنيعية في ظل احتمالية تأثر التجارة مع الصين، حسَب الورقة.
ويُضيف الكاتب أن مفهوم الاستمرارية، الذي هو أحد المفاهيم الراسخة عند القوى الكبرى، سيتغير قريبًا. فمع اضطراب النظام الدولي لن تكون الدول الكبرى قادرة على الاستمرارية في الحفاظ على أمنها الغذائي، والصحي، والمجتمعي، والمائي، والسياسي، حيث إن المهدِّدات المقبلة لن تتعلق باستعمال السلاح أو الاستعمار من قبل قوى كبرى، وإنما هي مهددات غير تقليدية بحاجة لتفكير غير نمطي في مواجهتها.
ويوضح زيهان في كتابه أنواع المهدِّدات غير التقليدية التي تشمل التغيّرات المناخية، وما ستسببه من فيضانات وجفاف يؤثر على الأمن المائي والغذائي العالميين، مضيفًا أن سوء القيادة السياسية سيكون سببًا رئيسيًّا في أفول نجم القوى الكبرى، تبعاً للوثيقة عينها.
وعلاقة بملامح النظام الجديد، أشارت الباحثة إلى أن زيهان يجادل بتأثر قطاع الطاقة العالمي، وتأثر الأمن الغذائي مع تراجع الحماية التي تقدمها الولايات المتحدة لدول العالم، ويرجع ذلك إلى اعتماد دول العالم على استيراد أنواع معينة من الطعام والسماد التي ترتبط بضمان تدفق حركة التجارة العالمية. ومع تراجع الحماية الأمريكية، يحدث خلل في السلاسل الغذائية العالمية، ويزيد معدل الجوع حول العالم، وحينها لن ينصبّ تركيز العالم على مكافحة الإرهاب، وإنما على تأمين طرق التجارة، مما سيدفع الدول إلى تبنّي إستراتيجيات أمنية جديدة”.
وعند تحقق هذا السيناريو، سيكون الأمن الاقتصادي والغذائي قائمًا على موارد الدول المحلية، مما سيمثل ميزة نسبية لفرنسا والأرجنتين والولايات المتحدة، نظرًا لامتلاكهم أراض زراعية واسعة وعالية الجودة، فضلًا عن أنظمة نقل داخلية منخفضة التكلفة، وقدرة على الوصول الآمن لموارد الطاقة، وقوة عاملة شبابية. أما الصين فستكون في مأزق لافتقارها إلى كثير من تلك العناصر. وكل ما سبق سيكون مؤثرًا بالسلب على المكاسب المادية التي حققتها الدول خلال عقود، فتزيد حدة الفقر، وتتراجع برامج التنمية داخل الدول.
ويتنبأ زيهان بإعادة تشكل الملامح الجيوسياسية للدول بفعل التغييرات المناخية، وبتراجع حركة التنمية داخل الدول لأزمات العولمة. ويتوقع الكاتب حدوث انهيار اقتصادي بالدول الكبرى يصاحبه ارتباك سياسي، وتراجع مؤسسي، وهنا ستظهر الحاجة داخل الدول الديمقراطية إلى إعادة صياغة العقود الاجتماعية مع المواطنين؛ وهو ما سيتطلب أوقاتًا طويلة، فتشكيل الإمبريالية الأوروبية -على سبيل المثال- قد تطلّب قرونًا حتى وصلت الدول الأوروبية إلى ما كانت عليه قبل الحرب العالمية الثانية، تلفت الورقة.
كما أوضحت المقالة أن زيهان يتوقع “انتشار بعض الاحتجاجات طويلة الأمد داخل الدول الأوروبية، وسيكون توقف الاحتجاجات رهينًا بإصلاح الدول الأوروبية لذاتها، وهو ما قد يستغرق عقودا عديدة. ومن المحتمل استمرار الصراعات بين الدول وبعضها بعضًا، حيث ستطفو على السطح الكراهية والتنافس الذي اختفى لعقود طويلة”.
ومع انسحاب الولايات المتحدة من قيادة النظام الدولي الذي تشكّل في أعقاب الحرب العالمية الثانية، يشير زيهان إلى “تجدد ظهور الصراعات الجيوسياسية القديمة، حيث ستزداد الخلافات بين الصين واليابان حول السيطرة على المياه المجاورة لهما. وستكون هناك حالة من حالات التحفظ بين كلٍّ من روسيا وألمانيا، ويُعزى هذا إلى نظرتهما المتعطشة لتعظيم الاستفادة من دول أوروبا الشرقية”، تُضمّن الورقة البحثية.
وفي سياق متصل، يشير الكاتب إلى ملامح سعي تركيا وإيران إلى استعادة مجدهما الإمبراطوري السابق، فيذكر أن أنقرة تعمل على زيادة نفوذها السياسي، وتغلغلها الثقافي في الدول؛ لكن النموذج الإمبريالي التركي ستشوبه بعض التشوهات، لأن تركيا تعتمد على خبرتها التاريخية القديمة في الاستعمار، كما أنها لا تمتلك كافة المقومات التي تؤهلها لإعادة بناء الإمبراطورية العثمانية مرة أخرى.
ويرى زيهان أن القوى الناشئة الجديدة لن تكون متماثلة القوة مع الدول الكبرى التي أفل نجمها، مضيفا أنه خلال هذا العقد والعقد التالي ستنكمش الفجوات التكنولوجية بين الدول. كما أن الإمبريالية ستأخذ طابعًا تعاونيًّا ومرنًا بين الدول، وستتم بصورة تدريجية، كما تفعل تركيا بسوريا حاليًّا. ويؤكد زيهان أن الصين والهند والبرازيل وروسيا لن تكون قوى كبرى عاقلة في المستقبل.
ووفقاً للمصدر البحثي ذاته، فإن زيهان يتوقع أن تلعب اليابان دورًا مستقبليًّا أكثر قوة بين دول آسيا، نتيجة لإدراكها سبل صناعة التكنولوجيا، وامتلاكها رأس المال، والقوة البحرية التي تؤهلها لسد فراغ الولايات المتحدة في بعض المناطق، ومن ثم فهي قادرة نوعًا ما على الدفع نحو تكوين تحالفات عالمية مع الدول، مع ضمان تأمين سبل التجارة بينها.
وربط زيهان بين التحول الديموغرافي وبين ارتفاع مستوى الرفاه داخل المجتمعات، فحينما تكون المجتمعات أكثر ثراء، يتراجع معدل وفيات الرضع. ويركز الآباء بشكل متزايد على نوعية الحياة التي يمكنهم توفيرها لأطفالهم، بدلًا من التركيز على كمية الأطفال. كما ترتفع نسب النساء المتعلمات الموجودات في سوق العمل، حيث يملن إلى قضاء أوقات أقل في تربية الأطفال، وأوقات أكبر في أعمالهن.