Zwei Fotos im Frame
Foto 1 Foto 2

الاستعراض العسكري : حين يجسّد الجيشُ معنى الدولة… وتستعيدُ الأمةُ يقينها

كان الاستعراض العسكري المخلّد للذكرى الخامسة والستين للاستقلال الوطني أكثر من عرضٍ لقوةٍ أو إبرازٍ لعدةٍ وعتاد؛ فقد ولد شعورًا وطنيًا غامرًا لا يُشترى بالمال ولا بالجاه، إحساسًا صادقًا بأن لموريتانيا درعًا واقية تعمل بصمت، وتنهض حين تُستدعى، وتطمئن الداخل وترسل رسائل واضحة مدروسة إلى الخارج.

لقد بدا للموريتانيين، على امتداد أيام وليالٍ سبقت العرض، أن جيشهم لم يعد قوةً خلف الأبواب، بل أصبح شريكًا وجدانيًا يعيشون معه لحظات التدريب والتحضير، يلتفون حوله لا بدافع الفضول، بل بحافز الدعم والإسناد والافتخار.

استعراضٌ يصنع الطمأنينة… وجيشٌ يؤكّد أن الاستقلال مسؤولية لا ذكرى

كان الاستعراض إذًا احتفالًا بالاستقلال، وتمديدًا لوهجه، وتذكيرًا بأن الجيش هو الاستقلال …وأن الاستقلال هو الجيش؛ ففيه وحده يتجسّد العقد المقدس بين الجندي والدولة: عقدٌ يُوقَّع بالدم لا بالحبر، ويلتزم فيه الجندي بتحقيق الغاية لا ببذل العناية فقط.

عديدة هي الوظائف بارزة الأهمية، حيوية المردود على الجماعة: الطبابة مثلا؛ حيث الطبيب يحيي الأنفس بإذن ربه، وبنفس الدور يضطلع التعليم للأنفس وتغذية العقول … لكن، التزام الطبيب والمعلم يظل في حدود بذل العناية.

بينما في الجندية الشعار هو: النصر أو الشهادة؛ حيث الجندي ملتزم بتحقيق الغاية، إنه يقدم دمه. وما ما دام به عرق ينبض، فيظل تحت القسم بالدفاع عن الوطن ورفع العلم.  

إن سمو هذا الالتزام وثمن تلك التضحية هو ما يفسر إحساس الكل بمناسبة كل استعراض عسكري: الصغار قبل الكبار، النساء قبل الرجال، برغبة جامحة في تحية الجند بالتعظيم المفعم بالامتنان، الاعتزاز والفخر، التعاطف والاحتواء، على نحو لا يجتمع لأي وظيفة مهما عظمت فائدتها …

طمأنة الداخل… ورسائل للخارج

جاء الاستعراض ليقول للعالم إن موريتانيا ليست غائبة عن المشهد الاستراتيجي في الساحل؛ وإن ما يُقتنى في دول الجوار من رادارات وطائرات ووسائل مراقبة، تقتنيموريتانيا مثله وأمثل، لكن دون أية “ابروبوغنذا”.

قدّم العرض نماذج حيّة من الطائرات، والوحدات، والأسلحة العاملة بالفعل في تشكيلات الجيش، ليُظهر بثقة أن القوات المسلحة:

ــ واعية بطبيعة التحديات.

-وأن مقاربتها الأمنية متعددة الأبعاد—عسكرية، فكرية، قانونية، اقتصادية، ودبلوماسية—هي التي صنعت الاستثناء الموريتاني في منطقةٍ ملتهبة، فصارت البلاد نموذجًا فريدًا في محيطها.

وهذا النجاح الأمني تُرجِم ميدانيًا في:

الانحسار التام لنشاطات جماعات التطرف العنيف داخل البلاد.

امتلاك الجيش لعناصر قوةٍ رادعة تمنع أي توغل أو مغامرة معادية.

تحوّل المؤسسة العسكرية إلى قوةٍ قادرة على امتلاك زمام المبادرة داخل حدود الوطن وحتى خارجه.

مشاركة الجيش في عمليات حفظ السلام في إفريقيا بوصفه جيشًا نجح في “الامتحان الوطني” فأصبح مطلوبًا في “تقديم الدروس على المستوى الإقليمي”.

عقيدةٌ عسكرية تُترجم على الأرض

العقيدة العسكرية الموريتانية، كما ترجمتها تفاصيل العرض، قائمةٌ على مبادئ واضحة:

حماية الأرض والسيادة.

احترام سيادة الدول وعدم الاعتداء.

التعاون في مكافحة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود.

واستمرار تحديث الترسانة العسكرية—كما كشفه الاستعراض—هو دليل أن البلاد تسير في مسارٍ استراتيجي يضمن حماية الأرض والوفاء بالالتزامات الإقليمية والدولية.

الوقفات الرمزية في الاستعراض

ـ الموسيقى العسكرية… ذاكرة الحماس والبطولة

افتُتح العرض بالموسيقى العسكرية، ذلك التقليد الخالد الذي رافق جيوش العالم منذ طبول الحروب القديمة. فالموسيقى العسكرية ليست زخرفًا؛ إنها إيقاع النصر، وبثّ الحماس، وصناعة المعنويات.

وهي خالدة في الوجدان الموريتاني يحكيها “الرزام” وغيره من طبول الفخر… سماعها وحده يعني أننا على موعد مع حدث جلل.

ليس غريبا إذن تصدر الموسيقى في يوم حماس وبطولة،فهي جزء من تشجيع الجيش على أداء مهامه وتكريس انتظاراته، فالعسكرية في جزء منها تتعلق بالموسيقى؛ سواء عبر طبول الحرب أو طبول تخليد الانتصارات،والموسيقى العسكرية الموريتانية فضلا عن أن لديها صفةالتمثيلة ــ بها تعرف موريتانيا ــ لديها دور كبير في الانتشاء بنتائج الحروب وانتصاراتها.

ـ الثانوية العسكرية… مصنع الرجال

مرّت تشكيلة الثانوية العسكرية، ذلك الصرح الذي يجمع الانضباط بالمعرفة.

صرحٌ علميٌّ شامخ يجمع بين المعرفة والانضباط، ويصوغ جيلاً يليق بمستقبل القوات المسلحة. 

شخصيا كنتُ أسمع عن الجيش، قبل أن يتاح لي يوماً أن أكون ضمن طاقم هذه المؤسسة، فبان لي الفرق بين أن نرى وأن نسمع… فليس من رأى كمن سمع. هناك، في أروقتها، وداخل حجراتها أدركت معنى النظام، ولمستُ الصرامة التي تُعطي صورة صادقة عن روح الجيش وجديته، وهذا ما تؤكده الوقائع يوما بعد يوم بتميز تلاميذ هذه الثانوية في المسابقات الوطنية، ورفدها الدائملمؤسسات التعليم العالي النوعية بكفاءاتٍ تنشأ على الانضباط قبل العلم، وعلى العطاء قبل الطموح، فخلال السنة الدراسية الأخيرة حققت نتائج باهرة من خلال نسبة نجاح وصلت إلى 100 بالمائة في جميع الامتحاناتوالمسابقات الوطنية، وانتزعت المركز الأول وطنيا في باكلوريا الرياضيات، كما احتلت المراكز الأولى في الأولمبياد ورالي العلوم.

تخرج منها منذ تأسيسها وحتى الآن 209 تلميذ بشهادة الباكلوريا، يخدمون الوطن اليوم كأطر متميزين في مختلف مرافق الدولة..

إنها ليست مدرسة؛ هي نواة تصنيع الرجال، ترفد المؤسسات الوطنية بكفاءات صنعتها الصرامة قبل أن يصنعها العلم، والعطاء قبل الطموح.

ـ الطير الأبابيل  سلاح الجو والمسيّرات 

كشف العرض عن طائرات الإسناد الجوي الخفيف، وعن المسيّرات الاستراتيجية الدفاعية والهجومية بعيدة المدى، والتي تُعد اليوم عين الجيش وذراعه.

فبالمسيّرات: تقلل الخسائر البشرية، وتزيد دقة القرار العملياتي،

وهي أكثر مناسبة لملاحقة الجماعات المسلحة التي تعتمد الحروب غير التقليدية، وتجتمع سريعا لتنفض سريعا، فلا بد لمواجهتها من أدوات يكون ردها سريعا ولحظيا ومباغتا.

تضم المسيرات إضافة “للطير الأبابيل” التي تترك العدو عصفًا مأكولًا، “الهداهد”: مصدر الجيش إلى النبأ اليقين، الذي على ضوئه ترسم الخطط وتنفذ العمليات، فحين يأتي النبأ اليقين في الوقت المطلوب يسهل تحديد الجند الذين لن يكون للأعداء قبلا بهم مع ضمانإخراجهم أذلة وهم صاغرون.

ـ الإشارة… أعصاب الاستشعار الناقلة لدماغالجيش

لا انتصار دون إشارة دقيقة.

فحين تصل البيانات في وقتها تكون 60% من العملية محسومة.

وقد مثّل استعراض كتيبة الإشارة وأنظمة المعلوماتية (التي تأسست 2014) ترجمةً لدور هذا السلاح الحيوي.

ـ كتيبة الصاعقة… الرعد الذي يسبق الهجوم

من اسمها تبدأ معركة الصدمة.

هي كنانة الجيش التي إن أخرجت حكم على العدوبالانهيار.

تُذلّ الخصم، وتُصغّره، فخروجها يعني الحكم على العدو بمواجهة ما لا قبل له به، وحسم المعركة بإذلاله وإصغاره،ودائما على خطى سليمان عليه السلام: “فلنأتينهم بجنودٍ لا قبل لهم بها”.

ـ خيّالة الدرك… الفروسية حين تتجوهر في الدولة

خيّالة الدرك كانت لوحةً من الجمال والهيبة.

الخيل—كما في الأثر—”معلّق في نواصيها الخير”. وقد ارتبطت الفروسية على اتساع دلالتها بالخيل. وتغنىالشعراء بها ولعل آخرهم شاعرنا الفخر محمد الطالب حين قال: 

ضبحا على الأرض أم قدحا على الحجر——— هـذى نواصيـك مثوالخيروالظفـر

الخيل غيظ العداء إن ثار فى دمنـا………….من العثانين ز هـو مرهـق النظـر

سر النجاح: قيادةٌ تعرف ماذا تفعل

لم تكن دقة التنظيم وتعدد وحدات العرض وتناسقها أمرًا بسيطًا؛ إنه ثمرة عمل قياداتٍ عسكرية وسياسية متكاملة:

القائد الأعلى للقوات المسلحة — الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني

هو باني النسخة الحديثة من الجيش: قائد أركان سابق، وزير دفاع سابق، وصاحب رؤية أمنية صنعت الاستثناء الموريتاني.

وجوده في مقدمة الإشراف منح العرض معنى السيادة، وأعطى كل خطوة فيه دلالة الدولة وهيبتها، فحين يكون القائد الأعلى في مقدمة الرعاية والإشراف، تكتسب كل خطوةٍ في هذا العرض معنى السيادة، كل تشكيلٍ عسكري يصبح ترجمةً عمليةً للعهد الذي يجمع الوطن بقيادته، كل وحدةٍ تستعرض نفسها تصبح شاهدةً على قوة الدولة وثبات مؤسساتها.

إنه عرضٌ يُقام تحت عينِ من أقسم على صون هذا العلم، فهو ليس بروتوكولاً ولا ترفاً احتفالياً، بل إعلانٌ رمزيٌّ عن أن الاستقلال الذي نحتفل به اليوم هو استقلالٌ مصان، وأن الحوزة الترابية التي ورثناها عن الآباء مؤمّنٌ عليها بيد القائد الأعلى، وأن المؤسسات الدستورية التي تنهض عليها الدولة تجد في هذا الإشراف أعلى درجات الحماية والضمان.

ما شاهدناه إذن، لم يكن مجرد حركة وحداتٍ عسكرية على أرض العرض.. إنه حركةُ دولةٍ في كامل اتزانها، وهي تُظهر للعالم أن سيادتها محفوظة، وأن استقلالها راسخ، وأن جيشها، بقيادة قائده الأعلى، يقف صفاً واحداً خلف رايةٍ لا تنكّس ولا تُقهر.

فرؤية القائد الأعلى للقوات المسلحة رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني هي التي جاءت بهذه النسخة الفريدة من الجيش، ورعايته هي التي أثمرت هذا التطور الفريد من نوعه، فهو صنع هذه الطبعة من الجيش الداحرة للأعداء والحامية للثغور.

وزير الدفاع — حنن ولد سيدي

رفيق رئيس الجمهورية في أهم مراحل تكوينهما كقادة، ساعده الأيمن والمساعد الأول له في محطات بناء المؤسسة العسكرية، خبيرٌ بالساحل وخبيرٌ دولي. حافظ الرئيس على بقائه حيث يستحق ويناسبه لما علم عنه من قدرة وكفاءة وجدارة مثبتة.

خلال فترة توليه حقيبة الدفاع ظلت مؤسسة الجيش والقوات المسلحة تحقق كل يوم إنجازا، دون تسجيل أي خطأ، فكانت حاضرة كلما استدعيت وحتى قبل استدعائها وحامية للبلاد من مجرد تسلل دخلاء يحتمل تهديدهم للسكينة العامة.

القائد العام لأركان الجيوش — الفريق محمد فال الرايس الرايس

ضابطٌ مثقفٌ صارم، جمع بين التهدئة والانفتاح، أخرج الجيش في عهده من كل الصراعات الجانبية، ورسم لنفسه خطًا مهنيًا ناضجًا.

وهو فوق هذا وذاك ثقة الرئيس؛ والمؤكد أنها ثقة لم تأتمن فراغ. 

يشترك مع رئيس الجمهورية في الميل لسياسة الاحتواء والتهدئة، ما أثمر منذ توليه قيادة الأركان أن لم يعد الجيش في صراع مع أحد، سواء من لهم تصفية حسابات مع القادة، أو من لديهم تضارب مصالح مع المؤسسة.

القائد العام المساعد — محمد ولد الشيخ ولد بيده (قائد العرض)

ابن المؤسسة، رضع العسكرية صغيرًا، وفتح عينيه في بيت من أعرق بيوتها، أفقه العسكرية وأسرته الجيش.

تخرّج من أرفع المدارس، وأتبع ذلك بالمشاركة في أهم الدورات.

قاد العرض بكفاءة ظهرت في كل تفاصيله.

العقيد سيدي محمد ولد حديد — قائد قيادة الاتصال والعلاقات بالجيش

صوتٌ إعلامي بامتياز لعسكري مهني بالانتماء والتكوين، موسوعي المعرفة، سهل مهمة من كان لهم الشرف من صحفيي إذاعة موريتانيا والموريتانية في أن اختارتهم المؤسسة العريقة لنقل الحدث الوطني العظيم؛ قدم لهم وبوقت كاف قبل العرض كلما سيحتاجون من معلومات فنية عن المستعرضين.

أريحيته وقدرته على التحكم فى أعصابه رغم ضغوطات الحدث ومحاذير البث المباشر، كانت ولله الحمد معدية، وأسهمت في إخراج النسخة الأجمل من الاستعراض.

ختامًا: لم يكن استعراضًا… بل بيانُ دولة

ما جرى لم يكن حركة وحداتٍ على أرض العرض… بل حركة دولةٍ كاملة:

دولةٌ تستعرض استقلالها.

وجيشٌ يعلن جاهزيته.

وقائدٌ أعلى يضع بصمته على كل خطوة.

وشعبٌ يجد نفسه في صفوف العسكر كما يجد العسكر أنفسهم في قلب الشعب.

كان الاستعراض بيانًا وطنيًا بصوتٍ عالٍ:

أن موريتانيا اليوم تمتلك درعًا واقية،

وأن استقلالها مصان،

وأن جيشها—بقيادته، وبعقيدته، وبروح رجاله—هو حارس الوطن… ورافع رايته… وصانع طمأنينته.

عاشت الجمهورية الإسلامية الموريتانية 

وكل استقلال وجيشها الباسل عنوان فخر الشعب وأفراحه…

الدكتور عبد المجيد إبراهيم