إن جميع مناحي الحياة في مختلف الدول، تأثرت بفعل الثورة التكنولوجية والمعلوماتية والاقتصادية الفائقة الطارئة عليه، مما تولدت عنه تحديات كبرى أمام ما يسمى دول الجنوب، ومنها اختراقهم لمنظومة القيم والاتجاه نحو تنمية عالم لا ناهي ولا منتاهي فيه، مما وسع دائرة التخلف والهشاشة وعمق الهوة بين الشمال والجنوب اكثر فاكثر. كما أخر كثيرا تحقيق التنمية المنشودة في توفير متطلبات العيش الكريم للناس والتوزيع العادل للثورة.
من هنا دلف لفظ لفظ الحكامة إلي القاموس السياسي وتدبير الشأن العام، كان بالكاد رديفاً لممارسة نظام الحكم لمسؤولياته وأعبائه ممثلا في مؤسساته وأجهزته المختلفة، والتي زاحمت سياق المفهوم التقليدي أو الكلاسيكي والمتجاوز لمصطلح مفهوم “الدولة”ودورها الذي تضطلع به ويعلمه الجميع.
والحالة هذه، أننا في هذا الزمن-وهو زمننا- لا نزال نسمع من يشير بتسمية “دولة” إلى عين المسمى، خاصة بموافقة مع من أصبحوا بالقول ب: “الدولة والمجتمع المدني”، حيث يرى الأخيرين بضرورة انفصالهما وتميزهما عن بعضهما البعض. علما بأن سنينا بل عقوداً طويلة قد مرت على ظهور المفهوم الحديث للدولة الذي جمع في آن واحد أو في سلة واحدة إذا جاز التعبير بين مؤسسات الحكم والمجالس النيابية والمجالس الجهوية والبلدية والمنظمات الجمعوية، الخ…
وهذا إن ما ينم عن تناقض في القول يشي باستمرار وجود جيوب مقاومة تقاوم التغيير الحتمي والإصلاح المنشود الذي يتطلع إليه العقل العامي والوطني بل العالمي في ما نسميه الموقف الذي لا يتزحزح عند Attitude de la fameuse masse muette الكتلة الصماء” ليس من اجل عدم استغلالها لأي وسيلة من وسائل التعبير المرخص لها بها فقط، فهذا أمر مجانب لمنطق الأشياء والفطرة التي فطر الله الناس عليها، وما جبل عليه الإنسان بفطرته من حب الخير والعدل والمساواة والإنصاف التصدي للحيف والظلم والغبن والحرمان مهما كان. ولكن عزاء هؤلاء المستضعفين هي أنهم صم بكم عمي إن هم إلا كالأنعام بل اضل سبيلا.
الحقيقة التي لا غبار عليها هي ان تحسس مشاكل الناس والتجاوب والإنصات إليها د ضرورة وإلزامية ملحة وفكرة وجيهة وجوهريه لا غنى عنها وفيها بعد نظر. ولا يتأتى أن يأباها حاكما أو محكوما و ليست من الكماليات أو المحرمات… كما يحلو للبعض أن يسوغها من المتربعين على الكراسي وذوو السلطة والقائمين على التدبير العمودي للشأن العام من المستفيدين من تلك الوضعية في ظل المفهوم البائد لمصطلح “دولة” وهذا التقييم قد ساد في مرحلة من المراحل لكنه لم يعد يتماشى والمرحلة، ولكي لا نعمم، هذا هو موقف جل هؤلاء إلا من رحم ربي وسيظل مناهضو مفهوم “الحكامة الجيدة أو الرشيدة” او “الراشدة” يظنون ظن السوء بأن العبور ادنحو الحكامة الرشيدة قد يكون مجردا لهم من أحاديتهم وهيمنتهم، ممن قد يفرضون عليهم من خارج دائرة السلطة الحاكمة كشركاء جدد، كانوا بالأمس القريب في عداد ((الرعايا)) أي في زمرة “المفعول به” لا “الفاعل” أو “الشريك في الفعل” على أقل تقدير.
ومن هنا تتجلى إحدى إيجابيات العولمة لما فرضت فرضا. من طرف النظام العالمي، من خلال نشاطات هيئاته وتدخلاتها الداعمة ومساعداتها الضاغطة، إنها مفاهيم جديدة غير مسبوقة، كان من بينها ذلك المفهوم الذي يجعل من “الدولة” موضع شراكة فاعلة وتناوب منطقي بل حتمي يحتم على جميع مكوناتها دون أدنى إقصاء، حتى أن الفضول المعرفي للإنسان المعاصر لم يلبث أن توقف، وصارت العملة الرائجة هي الشراكة والتناوب. وهما يشكلان فعلا إحدى ركائز سنة وتيرة الحياة اليوم بعد أن كان الفكر الإنساني لا يرى من هذه السنة سوى جدلية التناقض والتدافع والتناحر فالبقاء للأقوى والأصلح.
وهكذا بطبيعة الحال قد تغير المفهوم الذي كان سائدا رأسا على عقب، حيث ترك للأضعف أو الأقل صلاحاً دوراً من الأدوار يستبقيه للبقاء على وجه الحياة. في ظل الصيغ التشاركية المقترحة والمحتملة المعدة والمخطط لها في غرف عمليات أخر. (يتبع)… ودمتم بخير.