15 يناير 2025 , 16:44

النخبة النسائية بين الحقيقة و الوهم / الولي ولد سيدي هيبه

سيد هيبه

انعقدت الحلقة الثالثة من لقاءات و حوارات منتدى الحوار الشامل الذي تنظمه إذاعة موريتانيا و تنقله قناتا “شنقيط” و “دافا” التلفزيونيتين، في أجواء تطبعها التحضيرات الجارية للاحتفال بالـ 8 مارس الذي يحتفي بالمرأة دون الرجل، فقدر برنامج المنتدى أن تناول محور المرأة و الملفات المتعلقة بها أمر وارد و يندرج في إطار المشاركة في إحياء المناسبة، فاكتسى منبر الحلقة حلتها و حمل على متن منصته المنخفضة عن يمين صحفيي الانعاش و المحاورة باللغتين العربية و الفرنسية :
– مجموعة منتقاة من الأكاديميين لبعض المحاور المحدد،
– و خبيرا اقتصاديا يقدم قراءة في الواقع الاقتصادي و التنموي و مكانة المرأة في ذلك و نصيبها في إطار التمييز الإيجابي،
– و أطرا و سياسيين في جزء آخر من المحاور المتعددة الأوجه و الاهتمامات،
– و وزيرات سابقات و خبيرات اجتماعيات و مهتمات بشأن المرأة و نضالها، و داعيات لولوج النساء إلى المناصب القيادية،
و عن يسارهما :
– بعض أوجه الطيف السياسي و من المجتمع المدني الناشط في المجال الحقوقي، و غير ذلك من الحضور المشارك في الحركة التنموية و التي منها المهتم أساسا بالمرأة،
– و عناصر نسائية تخوض غمار السياسة و تلعب فيها أدوارا جوهرية و متقدمة في المسار السياسي و مشاركة بحيوية في مضمار الدفع إلى الأمام بعملية الحوار المتعثرة من خلال تحريك الساحة إلى جانب العديد من الأطراف الأخرى سعيا إلى حصول اتفاق بين الفرقاء في الأغلبية و المعارضة يؤسس لقيام هذا الحوار و الوصول به إلى تفاهمات تهدئ الوضع، تخفف الاحتقان و تخدم الوطن و ترضي المواطن.
لكن، و على غير ما درج عليه المنتدى في حلقتيه الأوليين، فقد غاب عن المنصة “المؤطر الديني” هذه المرة. و إذ غيابه لم يمنع المنظرين و كل الذي عالجوا الموضوع، من زاويا اجتماعية و تاريخية و تنموية اقتصادية، من أن يقدموا مداخلاتهم كل حسب المحور الذي أسند إليه، و لا أن يسعوا بما أوتوا من معرفتهم بدينهم إلى إضفاء مصحة دينية على هذه المداخلات ونثر شذى عطرها على محتوى أفكارهم التماسا للبركة و استنصارا لها في رقية شرعية غير معلنة.
و بالطبع فقد غلبت على الكثير من المداخلات لغةُ العواطف المتجاوزة و الاستعطاف المجامل الذي لامس أحيانا حد الابتذال المجاني، و السرد المنقى من مخزون أدبيات الماضي، و الاستنتاجات المخاطية التي تجافي هي كذلك معطيات الواقع الجديد و تتجاوز منطق الدولة المدنية. مداخلات حاولت من دون قصد سيئ أو نوايا مبيتة أن تستخدم النصوص القرآنية و الفقهية و الأحاديث و الشعر للتخفيف من بعض الضعف الذي اعتراها في هذا المنحى و وضعها في سياق مقبول
و الحقيقة أن بعض المداخلات النسائية امتنعت من أن تنطلي عليها الحيلة فانبرت رافضة لبعض ما ورد فيها و ما قد طبعه الغلو و الشطط من ناحية و قد سعت إلى تصحيح اعوجاج البعض الآخر مما ورد من ناحية أخرى و إن لم ترق بعض تلك المداخلات إلى المستوى المطلوب من النضج و القدرة على وضع الأمور في نصابها لإبراز وجه ناصع و واضح المعالم يبين عن مطالب كبرى شكلت في حد ذاتها ملفات مستقلة و ساخنة. و هي المداخلات التي لم ترق كذلك إلى درجة الكشف عن الآليات التي وجدت للوصول إلى ما دعته – في حالة محمودة من التوفيق المصطلحي إن جاز التعبير- “التمكين” للمرأة حتى تلعب دورها كاملا و تحقق مكاسب ذاتية برسم الحاضر و المستقبل القريب
و لا شك أن اتسام عموم الحلقة بضعف المستوى عما كان منتظرا بعيدا عن اتهام كل المتدخلين الذين أبلوا بلا مقبولا كل في محوره و اختصاصه و اهتمامه بما سمح به المقام و أتاحت له المبادئ و ربما اعتبارات أخرى، أبان عن غياب النخبة النسائية، في حلبة يبدو أنها ما زالت ذكورية، و عن لعب دورها كما هو مطلوب بإلحاح شديد تمليه ضرورات المرحلة.
من هنا فإن غياب هذه النخبة النسائية أو ضعف دورها على الأقل – إذا ما افترضنا جدلا أنها قائمة على مرتكز عملي صلب و أنها تحقق نتائج واقعية على أرضية البناء و التنمية بكل أبعادها – لا يضاهيه سوى ما هو حاصل من سوء تشكل و ضعف أداء النخبة الذكورية ذات المحصل العلمي الكثيف بمستوى الشهادات و الألقاب، على المستويين :
“الوجودي” المرتبط بتزعم الحراك التأسيسي للكيان الحديث و الثقافي الاجتماعي في ظل تحديات العولمة و الإشكالات الجديدة لتي تطرحها،
و “العلمي” المرتبط بضرورة رفع تحدي التنمية بالاهتمام بمقدرات البلد الهائلة من المعادن النفيسة و البترول في المياه الإقليمية من المحيط الأطلسي و في العمق الترابي،
و من الإصلاح الزراعي و الاهتمام بالثروة الحيوانية باعتبارهم أهم الركائز الدائمة منذ النشأة الأولى و لهم في الولايات المتحدة و فرنسا أسوة حميدة،
و غير كل ذلك مما كان لزاما و بعد مرور أزيد من نصف قرن من الاستقلال أن يكون قد غير من واقع البلد إلى أحسن و ساهم في كسر حدة، إن لم يقض عليها، مخاطرَ ما أصبح يعرف بالملفات الوطنية الكبرى المتعلقة بالاسترقاق و النظرة الدونية الاقصائية و هاجس الوحدة الوطنية الذي يعانيه كيانُ البلد و الأدهى و الأمر من غياب ضعف إرادة تسويتها و انعدام آليات تحقيق ذلك في أجواء مشوبة باستقالة النخب العلمية عن التخطيط الميداني لاستغلال خارطة هذه الخيرات و مراقبة و حماية عوائدها و السهر على توزيعها بعدالة نانطلاقا مما يفترض أن يكون وعيا لديها بأن الفقر و الغبن المتمثل بالتباين في الاستفادة مما هو متاح هي الاسباب الرئيسيه التي تقبع وراءها كل تراكمات هذه القضايا و تفاقم كل الاختلالات الخطيرة التي تحمل طابع وعلامات الصراعات القائمة على اختلاف تسمياتها و تصنيفاتها إثنية كانت أو طبقية أو قبلية صامتة على خلفية امتعاض لا يسمي نفسه و لكنه لا يخفى في دائرة التراتبية و التشذرم الذين لا تخفيهما و بكل سذاجتها “السياسةُ” بما يبين عنه تعدد الأحزاب المنشأة في مرحلة التأسيس ة الاطلاق على اعتبارات تأخذ كل معناها من هذه التباينات و تتناول بمقتضاها الشأن العام و تتخندق في شتى مفاصل تركيبتها و في صميم فلسفتها التي من المفروض أن يكون قد ولى زمانها.

و يصطدم واقع المطالبة بحقوق المرأة كاملة بالغياب الملحوظ لنخبة نسائية متماسكة فاعلة و منتجة لخطاب متوازن و مقنع في الحقلين (المعرفي- العلمي) و (الثقافي-السياسي) و يكون قابلا للترجمة العملية على أرض الواقع. و لا يعني ذلك أن هذه غير موجودة مطلقا و لكنها مشتتة و دون المستوى الذي يضمن فعاليتها و يؤهلها لانتزاع تلك الحقوق بمقياس و أدوات الندية و القدرة على تسليط الضوء الكاشف على القضايا الرئيسة التي تستأثر باهتمام الحركة النسائية في البلاد و في تقاطع مع معظم دول العالم و مصممة على أن لا تغادر حتى يتحقق موضوعان رئيسيان هما المساواة ورفع جميع أشكال التمييز ضد المرأة، ومحاربة العنف ضد النساء بجميع أشكاله. و هي القضايا و الحقوق التي إن تحققت ستؤول نتائجها حتما و في المحصلة النهائية إلى خدمة الحراك العام للبلد و تخلق ذلك التوازن الغائب الذي يمكن به و معه الرقي عن جدارة بواقع البلد إلى غاية الانسجام مع حركة العالم من حوله و يحجز نتيجة لذلك هذا الوطنُ مقعدَه على متن قطار العولمة السريع.
و حتى لا يظل هذا الكلام:
– نظريا لا يرقى إلى مستوى يُحمل معه بكل أبعاده على محمل الجد،
– و بعيدا على “قضية” المرأة أن تستفيد منه في شتى مناحي التجاوب مع مطالبها في المساواة مع الرجل،
– و لا يظل أيضا الكلام حول هذا الإشكال من قبيل الانصياع و اللهث وراء التبجح بمعرفة سياقات المصطلحات القاموسية النظرية و المفاهيم العالمية التي أصبحت جزء من الديكور الجديد لسياقات العولمة الأشمل في مضمار حراكها العام باتجاه “شمولية” لم تعد تعبأ بتاء التأنيث و لا جمع المذكر السالم بقدرما تؤمن فقط بالمُفرز و المُنتج الاستهلاكيين،
– و لا تظل عاجزة أو قاصرة عن الانسجام مع الروح “الإيجابية” في هذه المصطلحات و تلك المفاهيم و تبنيها منهجا و سلوكا و مطلبا عمليا على أرض الواقع.
و لإن كان قد ضاع وقت ثمين يقدر بعشرات السنين منذ الإستقلال و تلاشت فرص عديدة لتشكل هذه النخبة فإن المتغيرات الجديدة و نسبة الوعي المضطرد و استجابة الدولة لإملاءات الواقع و بروز مؤشرات قوية تعطي إمكانية تلافي هذا الوضع المختل من جهة و إمكانية انطلاق جديد إلى الآفاق الرحبة المتاحة من جهة أخرى في ظل تقلص العقبات الكبيرة التي كانت تقف حائلا أماها.
و قد يصبح بناء هذه النخبة النسائية المتماسكة و المتحركة في آفاق التغيير محفزا حقيقيا و محركا ديناميكيا للنخبة الذوكورية المتكئة على معارفها النظرية التي تحصلت عليها في الاغتراب خارج الوطن و عند عودتها دفعت إلى الاغتراب مجددا لكن هذه المرة داخل الكيان و من ثم ما أقدمت عليه بموجب ذلك من تسخيرها نفسها للمفاهيم الرجعية و الإقطاعية حتى باتت نافخ الكير و مذكي جذوة الجمرة النائمة تحت الرماد و موقظة كل “نيرون” كان نائما في أحضان الجمود

شاهد أيضاً

الثقة بالنفس، سر النجاح رغم التحديات

الثقة بالنفس ليست مجرد شعور، بل هي سلوك وموقف يحدد مسار حياتنا، إنها القدرة على …

اترك تعليقاً