هل وحدها الصدفة تصنع تاريخ المرء ، آم أن عوامل أخرى تساهم بدورها في نحت مصيره، منها حسن التخطيط، والقدرة على اقتناص الفرص المتاحة أمامه، ومعرفة من أين تؤكل الكتف حين يتعلق الأمر بمسيرة سياسية ، وهل يكفي الذكاء وحده للصمود في وجه الأعاصير والمؤامرات الحزبية، أم أن الثبات على المبدأ، ووضوح الرؤية والهدف والصبر، تظل هي مفتاح الارتقاء والصعود في عالم السياسة الذي لا يرحم. هذه الأسئلة وغيرها تفرض نفسها وأنت تتصفح جزء موجزا من السيرة الذاتية لرئيس وزراء فرنسا الجديد مانويل فالس، في مقال نشرته مجلة لونوفال ابسرفاتور الفرنسية نستعرضه تعميما للفائدة، وكمقدمة لاستقراء ما ينتظر فرنسا والحزب الاشتراكي تحديدا فترة توليه مسؤوليته الجديدة. منذ بدايته، وهو في سن 26 عاما، كمساعد للنائب في البرلمان ميشال روكار، إلى التحاقه بصفوف فرانسوا هولاند في الجولة الثانية من الانتخابات التمهيدية للحزب الاشتراكي لاختيار مرشحه للانتخابات الرئاسية لعام 2012 ، تتلمذ رئيس الوزراء الفرنسي الجديد ، مانويل فالس، على يد أربعة معلمين من كبار الاشتراكيين، وهم ميشال روكار، وليونيل جوسبان، وسيغولين رويال، وفرانسوا هولاند.
روكار.. الأستاذ
في غضون بضعة أسابيع سيكون روكار رئيس وزراء فرانسوا ميتران ، أفضل أعدائه كما يقال، واحد الذين رافقوه في السيارة في ذلك اليوم ، سيصبح في ماتينيون ، احد معاونيه في البرلمان. انه مانويل فالس الذي لم يتمم بعد 26 عاما من عمره وقد منحه معلمه الأبدي درس حياته حين قال له روكار اعلم إن السياسة ليست مهنة، فكر جيدا، ولكن يجب عليك أن تستأنف دراستك.. الدراسة ؟ ثم ماذا! فمنذ أن تحصل على شهادة الباكالوريا كانت الدراسة آخر اهتمامات أصغر الروكرديين، واكتفى ببعض دروس في الحقوق، وبداية إعداد شهادة ماجستير في التاريخ، ولكن كل ذلك كان يبدو مملا أمام بهجة النضال الحزبي وحيويته!
منذ تلك الفترة وفالس سياسي محترف، وهو ليس الوحيد في جيله ، ولكن بالتأكيد احد أكثر المبكرين ومن أكثر الموهوبين، ويتمتع بشخصية متفردة أيضا. والده رسام وأصيل كتالونيا ، رسام فنان ، وليس دهان بنايات ، كان يوضح مانويل الشاب، كلما كان عليه تعمير بعض الاستمارات والوثائق. أما والدته فهي من أصل إيطالي.
وحتى يتسنى له الانتماء إلى الحزب الاشتراكي الفرنسي عام 1980، كان عليه أن يسأل ما إذا كان وضعه كأجنبي يطرح مشكلة. لم يتمكن من التصويت سنة 1981، وعام 1986، عندما أصبح أصغر المستشارين المحليين في فرنسا، تمتع بقانون جديد لا يجبره على الانتظار عشر سنوات قبل أن يصبح مؤهلا للترشح في الانتخابات . كل هذا نحت فيه مزاجا وطبعا خاصا، وكان فالس ، من بين أصدقائه في ذلك الوقت، ماكرا وطريفا ، يتمتع بثقافة أدبية و تاريخية حقيقية تحصل عليها من عائلته ، فهو يتحدث عدة لغات وأوروبي الهوى. وفي سن يعتنق فيها الكثيرون الأفكار اليسارية الراديكالية ، كان فالس يريد أن يكون روكرديا فقط .
بداية هذه القناعة كانت وهو يشاهد على شاشة التلفزيون المبشر باليسار الثاني للمرة الأولى. فروكار الذي يؤمن به لا علاقة له بالزعيم السابق للحزب الاشتراكي الموحد معبود كاثوليك اليسار. إن فالس صبي جدي، براغماتي وواقعي وحديث، وميتران ، بالنسبة إليه ، يشبه عدل تنفيذ في الريف، صحيح انه فاز عام 1981 بكرسي الرئاسة، ولكن بغاية ماذا؟ إن فالس البدايات يلخص تماما هذا التناقض . بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي ، ليس لديه، في هذا الصدد ، أي تردد، فالروكاردية بالنسبة إليه هي طريقة أخرى لتأكيد طموحاته .
بداية المشوار كانت في باريس في كلية تولبياك، وكان العمل النقابي الطلابي مدرسة تكوينه، ليلتحق بعد ذلك بالعمل السياسي على الطريقة التقليدية: نيابة تمكنه من العيش ، وتتمثل في عضو المجلس الإقليمي إيل دو فرانس، كما تولى مسؤوليات في جامعة الحزب الاشتراكي بباريس ليتسلق سلم المسؤوليات في جهاز الحزب، ثم منصبا في ماتينيون لتنمو له مخالب. عام 1993، عندما تمكن روكار، الذي كان قد اعفي من مهامه قبل عامين من شارع دي فارين، من طرد فابيوس من سولفرينو مقر الحزب الاشتراكي، كان فالس احد مهندسي هذا الانقلاب الصغير. إن تعليمه الحقيقي رغم روكار، وبفضل روكار تلقاه في المياه الراكدة للحزب، فخلال عشر سنوات ، استطاع أن يبني عشه ، فهو السكرتير الوطني للحزب الاشتراكي المسؤول عن الاتصال، من يستطيع أن يفعل أفضل ذلك؟
جوسبان.. الأب الثاني
ماتينيون ، مرة أخرى، الاتصال، دائما، ففي طريقه الى السلطة يتبع فالس نفس المسار، كان هناك روكار، و الآن هناك جوسبان، لم يبقى فالس يتيما لفترة طويلة.
عندما عاد الرئيس السابق للحزب الاشتراكي إلى سولفرينو ، بعد حملته الرئاسية عام 1995، استفاد من مجموعة تدين بالولاء لروكار كانت مجمدة. ربيع عام 1997 ، بلغ فالس 35 عاما ولكنه بقي على حاله، يحتفظ بمكتب في سولفرينو مقر الحزب، يتقاسمه معه المتحدث الرسمي باسم الحزب في حينها فرانسوا هولاند، لم يكن يملك منطقة نفوذ، ولا يزال صغيرا للعب في ساحة الكبار، وعندما تفشل في أن تكون أميرا ، يكون حلمك ان تصبح مستشارا للأمير.
دائما نفس القصة..!
توفي ميتران، و تقاعد روكار، فأصبح فالس من أتباع جوسبان . وقد سبقا لهما أن التقيا عن طريق الصدفة ، في جويلية 1993، وجه فالس نقدا حادا ولاذعا للممارسة البطريركية للسلطة ، أزعج حرس ميتران القديم إلى درجة أن جوسبان لم يجد ما يقوله. وفي نقد الولاية الثانية للاشتراكيين، كان الرجلان على نفس الموجة، فالخلاصة التي توصل إليها تيار روكار وتيار جوسبان داخل الحزب هي نتاج الحق في المحاسبة .
خلال الانتخابات الرئاسية عام 1995، مازال فالس مجرد يد صغيرة في الفرق القديمة لجوسبان بعد ذلك بعامين ، عندما حلّ جاك شيراك البرلمان في خطوة غير محسوبة ومتسرعة رغم امتلاكه الأغلبية، تغير كل شيء . الذين خاضوا الحملة الانتخابية إلى جانب جوسبان، هم فرانسوا هولاند (الناطق الرسمي) ، وبيير موسكوفيتشى (البرنامج الانتخابي) ، اكويلينو موريل ( الخطابات ) ومانويل فالس (الدعاية) بعد الانتصار ، اصطحب رئيس الوزراء الجديد معه إلى ماتينيون ، مجموعة الحرس الشاب التي لم يسعفها الاقتراع لدخول البرلمان الجديد.
مهزوما في الانتخابات، انتقل مانويل الباكي، في غضون ساعات، إلى فالس الضاحك، ليحتل المكتب الصحفي في ماتينيون.في هذا الموقع ، تتعدد المفاتيح، إذا ما كانت لدينا الموهبة والطموح: التواصل مع الصحفيين، استراتيجية الاتصال، وخاصة تعلم كواليس الدولة.رغم التعايش في تلك الفترة بين رئيس من اليمين شيراك، ورئيس حكومة من اليسار، فإن معظم السلطات كانت تتركز في ماتينيون. وأصبح جوسبان ، الذي بات لا يفارقه بالنسبة لفالس أفضل من روكار في زمنه، فهو مع أستاذ متفرغ . وهاهو للمرة الأولى في مسيرته القصيرة ، في قلب الجهاز.
ربما اكتفى آخرون بذلك، ولكن فالس انسحب ربما ليلعب لحسابه الخاص وليس ضجرا، واختار أن يتم انتخابه كرئيس بلدية في معقل للاشتراكيين كان في خطر، وهي أيضا دائرة انتخابية للبرلمان وليس هناك ما هو أفضل من هذه الفرصة. سمح جوسبان بخروج معاونه، ولكن لهذا الاختيار ضريبته، ففي حملة الانتخابات الرئاسية التي خاضها جوسبان عن الحزب الاشتراكي عام 2002، بقي فالس بعيدا.
لم يكن يوم الهزيمة 21 ابريل ، إلى جانب جوسبان، وإنما من بين منظوريه في ايفري، في تلك الليلة ، لم يكن يخفي حزنه وألمه ، إذ ها هو للمرة الثانية ، يتيما وماذا لو كانت تلك المحنة فدية الصعود و الارتقاء؟
سيغولين والفراغ
من الصعب أن تكون محايدا في التعبير عن دعمك و باردا في إبراز رفضك، بعد تسعة أشهر الانتخابات الرئاسية، ولا مرشح للاشتراكيين. في منتصف أكتوبر 2006، مانويل فالس يصطف وراء نجمة اللحظة : سيغولين رويال ، لأنها تجسد التغيير و لأنه سيتم اختيارها في الانتخابات التمهيدية الداخلية التي انتظمت الشهر التالي. قبل ذلك ، كان النائب ورئيس بلدية ايفري ، مثل العديد من أتباع جوسبان ، قد تظاهر بإيمانه بعودة رئيسه، فالمتقاعد كان يحلم بالانتقام، قبل أن يدرك أن زمنه قد ولى بلا رجعة.
ساعة الاختيار، لم يكن فالس سوى مجرد مساند لسيغولين، فمن المبكر جدا أن يُقدم على لعب ورقته الخاصة في سيدة مسابقات الجمهورية الخامسة ، ففي داخله حزن وألم وصدق وإخلاص.ففي قرارة نفسه ، كما كتب لاحقا ، كان فالس في الواقع مقتنعا بأن بطلته الجديدة سوف تخسر انتخابات لا يمكن لليسار أن يفوز بها ، ليس لأن سيغولين رويال بالنسبة له عاجزة على ذلك، فهو يقاسمها ذات النهج الذي اعتمده توني بلير والذي تبنته، حتى لو كان يعتقد أنها لم تفهم ينابيعه الحقيقية. فالهزيمة التي توقعها ، هي في رأيه، العقوبة المنطقية لغياب عمل حزب أداره هولندا بشكل سيء ، وتم ازدراء نقاش الأفكار داخله الأمر الذي أثار سخطه وغضبه.
في الخندق المقابل، استطاع ساركوزي أن يجدد اليمين ويطوره، في الوقت الذي اكتفى فيه الحزب الاشتراكي بمناورات الصغيرة لا مستقبل لها. لا أحد أراد أن يستمع إلى تحذيرات النائب ورئيس بلدية ايفري، بل اتُهم بالسركوزية .بعد انتخابات 2005 وطيلة خمس سنوات كرس فالس معظم طاقاته لتأكيد ذاته وتحصين قلعته، صوته متفرد، يقض مضجع رفاقه في الحزب، لكن لا يزال من السابق لأوانه أن يسمعه في انتخابات رئاسية. في فريق سيغولين ، قبل دون تذمر بوظيفة من الدرجة الثانية : إدارة الصحافة الأجنبية. بعد ثلاث سنوات، خلال مؤتمر ريمس الجنائزي، لعب أيضا ، دور الجندي الصغير المنضبط، بتولي نفس المهمة ولكن مع زيادة في المسؤوليات. كل هذا لم يكن جديا، غير انه قانون المرحلة. إن فالس يبحث، ويبحث عن نفسه، انه يتحسس ويحاول بعض الضربات لكنها فشلت جميعها. ربما كان ذلك قدر المجددين الذين لا بوصلة لهم سوى طموحهم الخاص.
حماية هولاند
مع كل كتاب، ضجة، وفي كل برنامج تلفزيوني ، مُحرّم يسقط، ويُسمى هذا في اللعبة السياسية الكبرى، صناعة الظهور والحدث الخارجي . إن فالس يحسن صورته وحضوره على طريقة روكار، ولكن من دون جنود و ببرمجية غير مؤكدة. فالعزلة دور وليست قدرا أو مصيرا. ووصل الأمر بمارتين أوبري حين تولت شؤون الحزب الاشتراكي، أن تشير إليه بباب الخروج من الحزب.إثارة الساسة ووسائل الإعلام، هي أفضل وسيلة للحصول على دعوة للبرامج الأكثر مشاهدة، يوما يشترط أن يُغير الحزب الاشتراكي اسمه، في الغد اقتراح تأجيل سن التقاعد. إن اتخاذ آليا مواقف مضادة لمقترحات حزبه ومواقفه هي نوع من المأزق حين نكون نطمح إلى دور يختلف عن دور الرافض للدوران في الفراغ.
بعد انتخابه عام 2007 ، عرض عليه ساركوزي الالتحاق بصفوفه. استجاب فالس لدعوة الإليزيه حتى يتعرف على الوحش ، دون أي نية لمصافحته أو عقد صفقة معه. وفي كتاب حواري نشره العام التالي ، قرر فالس أخيرا أن يكشف جميع قواعد حركته: الفجوة بين اليسار واليمين ؟ هذا مبدأ أساسي لأية ديمقراطية ، شريطة أن كل معسكر يكون في مستوى ما يدعي أن يكون. هذا للغارقين في سبات عميق من الاشتراكيين. مفتاح التغيير ؟ يمر حتما عبر الانتخابات الرئاسية، إما أن نكون في الإليزيه . أو يكون لنا ثقل على الاليزيه سواء كرئيس للوزراء ، أو بصفة عضو في الحكومة أو كمستشار. في العمق ، أيا كان، فالأساس ليس الدور وإنما النفوذ الحقيقي .
عندما يسمع المرء الحديث عن سقف عال للأهداف، أي أن تكون القائد أو محاوره الرئيسي، فهذا هو فالس في نسخته الأصلية وصورته النقية .لقد فهمه ساركوزي، وكثيرون في الحزب الاشتراكي لم يرونه قادما، كما أنهم لا يريدون الاعتراف بأن نهجه المعلن والمستوحى من توني بلير ليس مجرد موقف يعبر عن حداثة الزائفة أو عن حب لجرعة عالية من الضجة الإعلامية، بقدر ما هو هوس ببناء سياسي وفكري جدير بهذا الاسم.الواقعية الاقتصادية و البراغماتية الاجتماعية و الحداثة المجتمعية ، الكل على خلفية سلطة في استعادة الخطاب الجمهوري الفرنسي .
وعلى هذه القواعد والأسس وجد فالس السنوات 2002-2007 ، سنوات النضج ، الطريق إلى السلطة الحقيقية، وكل ما تبقى خلال تلك السنوات الخمس التي تبدو ظاهريا سنوات تيه في الصحراء ، لم تكن سوى خيارات تكتيكية، شرط ان لا يخطا في اختيار الجواد الرابح.فهل اعتقد النائب ورئيس بلدية ايفري، انه في يوم من الأيام سوف ينتصر تحت ألوانه الخاصة ؟
عندما تحدث منتصف عام 2009 ، معلنا أنه يوم ما سيخلف رئيس بلدية ايفري ساكن نوييه ، كان ذلك أولا لتحديد موعد. وفي صورة ما.. وعندما قال ، العام التالي ، في مواجهة دومينيك ستراوس كان ، انه لن يصر ، فإن ذلك كان من باب الواقعية بقدر ما هو من باب الاحتياط من لعب دور الفائز.
بعد سقوط رئيس صندوق النقد الدولي دومينيك ستراوس كان ، ظلت شكوك فالس قائمة، قواته ضعيفة إلى درجة أنه يخشى عدم التمكن من توفير التزكيات المطلوبة، وإذا ما انخرط في المعركة ، وهذا ينسجم تماما مع ما قاله دائما . فحسابه الفائز هو أنه إذا لم تكن ملكا، فلتكن صانع الملوك، وان السبيل الوحيدة لمساعدة فرنسوا هولاند على أن يكون المرشح ليس بتشكيك فيه في الانتخابات التمهيدية، وإنما في حماية جناحه الأيمن، في مواجهة مارتين أوبري.
لقد بدا فالس خلال الجدل والمناقشات التي صاحبت المرحلة التمهيدية، مهاجما لا يبحث عن الانتصار، وكانت نسبة الخمسة بالمائة التي تحصل عليها مساء التاسع من أكتوبر، لا تزن كثيرا، ولكن وزنها في نفس الوقت من ذهب. فقد عثر فالس ، في ذلك اليوم ، وبالتزامن، على طريق الأسرة وكسب ثقة هولاند .. وكان يعلم أن حملة الانتخابات الرئاسية معه، ستكون في المقام الأول شكلا و تمثلا، وبالتالي قضية اتصال.. اكتملت الدائرة، وبدأت قصة أخرى..!
المرابع ميديا – al-maraabimedias موقع "المرابع ميديا" التابع لوكالة المرابع ميديا للإعلام والإتصال