عندما يكون المثقف بيروقراطيا فإن زوجته لن تعاني ما تعانيه أرامل الرياض وعرفات والميناء حيث يقضين أسابيع وشهورا يترددن على كتاب الضبط وحُجاب الحكام لرشوتهن مقابل الحصول على شهادة وفاة لأزواجهن الذين ماتوا منذ أيام أو أعوام.
فكم مثقفا مات ميتة ثقافية قبل موته البيولوجي ، وكما آخرين ماتوا بيولوجيا ولا يزالون أحياء متواجدين في كل تفاصيل حياتنا اليومية ..
من خلال قصائد عظيمة في مواقف تاريخية نتعرف على شاعر ما، ومن خلال رواية قصصية تسطر ملحمة من واقعنا الإجتماعي نكتشف روائيا ما ، كما هو الحال مع الرسام والكاتب والمبدع أياً كان نمطه الأدبي والإبداعي ..
رمزية المثقف أو الشاعر تتجاوز آدميته إلى إنسانيته ، ويطول عمره ويقصر بحسب التزامه بهذه القضية العادلة أو تلك ، ويموت موتا سريريا بمجرد تخليه أو تنازله عنها..
فالبقاء لله .. والخلود للفكرة ..
طريق المثقف والمبدع كأداء و موحشة ، والمثقف نفسه هو مصباح هذه الفكرة، فكلما اشتعل كلما أضاء للجماهير من خلفه طريق الصواب ، وكلما ذلل لهم الصعاب ، وهذا هو الدور المنوط به أيا كان، شاعرا أو روائيا ..
والشاعر الأديب هو من سيضع معالم هذا الطريق الدامس المدلهم بالخطوب، وهو من سيكتب فواصلها، ويحدد منعرجاتها، وسدودها ، وأسوارها ..
فهو خرِّيتها الذي يثاقف جمهوره ، والخبير الذي يشارك الناس خبرته ، ويُحس معهم بما يُحسون، ويتألم لما يتألمون ..
هو ابن هذا المجتمع الذي ينتجع معه، وبه، و له، الحق والفضيلة في الغداة والأصائل ، لا يكلّ ولا يملّ ولا يستوحش الطريق لقلة سالكيه ..
فأين هم أؤلئك المثقفين والشعراء الذين برقت أسماءهم في سماء الإبداع ذات يوم، بمواقفهم الملتحمة بالجماهير في لحظات فارغة من تاريخنا الوطني ..؟!
من المؤسف والمفجع حقا، أن بعض هؤلاء لا شغل اليوم لهم سوى لعق أحذية جنرالات المؤسسة العسكرية الذين يتقلبون صباح مساء في نهب المال العام، خلافا لما تنادي به وتدعو له روائعهم الشعرية في دواوينَ ليتها لم تطبع وليتها لم تنشر ..!
إذ لا يمكن لمكابر أن يغمط هؤلاء حقهم بأنهم سطروا ملاحم خالدة ، لكن لما يكون النص الأدبي أطول عمراً من صاحبه ، فحتى عندما نقارن بين نصين أدبيين لشاعر واحد من هؤلاء في حقبة إبداعه وحقبته اليوم ، لا نكاد نجد أيَ رابط بينهما ..
فشتان بين أمس تنقل صاحبه بين سجن بومديد في بلاده ومنفى مومبي في الهند حاملا مشعل قضيته، غير آبه بالسجون ولا راغب في مطامح السلطة وفتاتها ، وبين حاضر يطالعنا بنفس الشخص شاخص العين متجولا بين مقرات حزب السلطة الذي يتزعمه جنرال منقلب على الديمقراطية والعدالة والحرية والمساواة التي كرس لها ذلك الشاعر والأديب سنيّ عمره وأفنى زهرة شبابه دفاعا عنها ..!
ألم يكن الموت أرحم به من هذه المشاهد والمواقف الصادمة ؟؟!
حال ذلك الشاعر كي لا أظلمه ، وقد ظلم نفسه، هي حال العشرات من المثقفين الأحياء الأموات ، الذين ماتوا منذ زمن بعيد ، ولا يزالون يتساقطون في الطريق وقد بعدت عليهم الشُقة وأغرتهم السلطة بوزر الوزارة والإدراة ، حتى تركوا الحلبة الأدبية لأدعياءَ، لا يفقهون في الفكر ولا في
الثقافة!..
لعمر الله لقد جنوا علينا !!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*رئيس جمعية المرابطين للأصالة والإبداع