مذ عرفت من أنا وأنا مدله في عشق ذلك المنكب البرزخي حد الفناء، أهيم ولها بألوان علمه النابضة بخضرة المراعي الخصيبة وصفرة الكثبان الذهبية، أذوب طربا لأنغام نشيده الوطني النبيل رغم أني كنت حينا من الدهر أحسبه (ولد داداه كاس اندر)!.
ثمالة العشق وصبابة كأس الحنين إلى ربوع الوطن أفاضتها في قلبي أعوام سبعة أو تزيد من الغربة مات فيها الصفصاف والزيتون، نعم أزوره أحيانا زيارات خاطفة تشعل من نار هواه في وجداني أكثر مما تطفئ من لهيب الحنين، كان هاجس كوني ضيفا على وطني ينغص على لحظات الفرح ويكبح جماح النفس عن التوغل في الاستمتاع بمنح الزمان وعطايا المكان.
وددت اليوم بصدق - ونحن بصدد ذكرى الاستقلال- لو أعود إلى أيام الصبا، وتحديدا إلى سنوات الدراسة الابتدائية حيث كان الاحتفال بعيد الاستقلال حدثا جللا ويومه يوما مشهودا كنا نفرح حقا بصدق وعفوية الأطفال.
كنا نصحو مبكرا لأن التلفزة الوطنية ستجود علينا ذلك اليوم بساعات بث إضافية نتابع فيها بشغف ما تصدح به حناجر الفنانين من أغان وأناشيد تمجد الاستقلال،
وكنا نشاهد بفخر ونشوة عروض التشكيلات العسكرية (لم نكن نعرف من هم العسكر حينها)!.
كانت مظاهر الاحتفال ورفرفات العلم ونغمات الأناشيد والأغاني الممجدة للوطن والمقاومة كافية لتزرع البهجة في نفوسنا، فلم نكن لنسأل عن معنى الاستقلال ولا عن حقيقته، ولا عن ما يستلزمه، ولا أيا من الأسئلة اللعينة التي تفرض نفسها علينا اليوم، فتنغص علينا فرحنا بعيد الاستقلال.
آآآآآخ لقد كبرنا!! ولسوء الحظ تسربت إلى أذهاننا معان جديدة لكلمات قديمة من قبيل الوطن والحرية والعيش الكريم والديمقراطية والعسكر والانقلاب والانتخابات... وكلمات أخرى كثيرة أجهزت على ما تبقى من راحة البال وسذاجة الأطفال!.
لقد فتحنا أعيننا عن آخرها على حقائق الأرض وواقع الناس وصدمنا أيما صدمة ونحن نرى صورنا الملونة الجميلة عن الاستقلال تدوسها نفس الأحذية التي كنا نطرب لخطوها ردحا من الزمن!
صدمنا ونحن نسمع تغاريد الحرية والوطن والمقاومة تتحول إلى نعيق وضوضاء يطلقها المتملقون والمتمصلحون والمتسيسون وباعة الوطن!.
وانتبهنا بعدما زال الرحيق *** وأفقنا ليت أنا لا نفيق
أفقنا تدريجيا من حلم وردي جميل على واقع مر كئيب!
لقد كنت شخصيا أسعد كثيرا بالمظاهر والأشكال والعروض المصاحبة لعيد الاستقلال ولا أهتم لما وراء ذلك. أما اليوم فقد بت أنوء بحمل ثقيل من الأسئلة الملحة عن حقيقة وطني وواقعه ومستقبله وأنا أراه مختطفا - لا من عدو خارجي- وإنما من أبنائه... فهل نحن بحاجة لمقاومة جديدة واستقلال جديد ينقذ الوطن من قبضة قراصنة الأمل وسراق الأحلام!.