عرف كثيرون أن الدكتور محمد البرادعي كان أحد مهندسي ومنظري إخراج انقلاب 3 يوليو. وأنه كان شريكا في ترتيب أوضاع ما بعد الانقلاب سواء في محيط الرئاسة أو فيما خص الاتصال بالعالم الخارجى، أو في تشكيل الحكومة وترشيح بعض أعضائها. ومن ثم فلا يشك أحد في أن الرجل وظف خبرته وتاريخه ورصيده المعنوى لصالح إنجاح الانقلاب وتسويقه، وهذه الخلفية لا يستطيع المرء أن يتجاهلها وهو يشهد “الانقلاب” على الرجل الذي صرنا نتابعه هذه الأيام عبر وسائل الإعلام المصرية، التي ما برحت تجرح شخصه وتاريخه حتى قرأت اتهامات له بالخيانة، وشاهدت رسوما كاريكاتورية صورته وهو يطعن مصر في ظهرها، ذلك غير الدعوات التي أطلقت لتحديد إقامته والشائعات التي تحدثت عن علاقته بالتنظيم الدولي للإخوان، وعن إدراج اسمه ضمن الممنوعين من السفر إلى الخارج.. إلخ.
المحظور الذي وقع فيه الرجل وأدى إلى ملاحقته واغتياله سياسيا ومعنويا يتلخص في أنه تحدث عن الإخوان باعتبارهم قوى وطنية لا ينبغى تجاهل دورها، ثم إنه رفض استخدام القوة في اعتصام رابعة العدوية وتحدث عن وجود وسائل أخرى سلمية لفضه وحل الأزمة مع الإخوان، ثم إنه قدم استقالته من منصبه كنائب رئيس للجمهورية بعدما تم استخدام القوة في فض الاعتصام الذي سقط فيه مئات القتلى وآلاف الجرحى.
كانت جريمة الدكتور البرادعى أنه اختلف مع شركائه حول مسألة القتل، وأراد أن يخلى مسؤوليته عن الدماء التي أريقت، فأعلن رأيه، وقرر الانسحاب من المشهد والاستقالة من منصبه. أعني أنه اختلف في الأسلوب وليس في الغاية. لأنه كان شريكا وجزءا من الانقلاب منذ لحظاته الأولى. لكن ذلك لم يغفر له، فاستهدفته السهام على النحو الذي أشرت إليه.
حالة الدكتور البرادعى ليست الوحيدة، لأن العدد القليل من المثقفين الذين حاولوا أن يتبنوا مواقف معتدلة وشريفة التزموا خلالها بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. تعرضوا لحملات مماثلة من التشويه ومحاولات الاغتيال عبر وسائل الإعلام، التي نصبت المشانق المحاطة بحملة الأسهم المسمومة. لكل من تسول له نفسه أن يعترض على خطاب الكراهية ودعوات الإبادة السياسية بل والمادية أيضا. ولا غرابة في ذلك، فقد كتب أحدهم داعيا إلى إحراق الإخوان بـ”الجاز” (يقصد الكيروسين).
الملاحظ أن حملات التجريح والاغتيال هذه تتم في أوساط عناصر كانت ومازالت معارضة للإخوان ومخاصمة لهم، وهو ما يصوِّر لك مدى حدة الاستقطاب وعمق مشاعر الكراهية التي جعلت البعض لا يحتملون أى قدر من الاختلاف مع رفاقهم ونظائرهم. ودهشتنا تتضاعف حين نجد بين حراس المشانق وحملة الأسهم المسمومة مثقفين وأكاديميين محترمين كانوا يعظوننا طوال السنوات التي خلت في الدعوة إلى التسامح وضرورة احترام الرأي الآخر والالتزام بقيم الديمقراطية والتعددية… إلخ.
إذا كان ذلك يحدث بين أبناء الفصيل السياسي الواحد، بحيث أصبح الاختلاف في الوسائل مسوغا للاتهام بالأخونة، وبتقاضى الأموال من التنظيم الدولي وصولا إلى الاتهام بالخيانة، فلك أن تتصور ما يمكن أن يرمى به المحايدون على قلتهم، ناهيك عن الذين اختاروا الاصطفاف إلى جانب الفصيل الآخر المعارض للانقلاب، سواء كانوا من الإسلاميين أو من المستقلين. وفي مثل هذه الأجواء فإننا لا نبالغ إذا قلنا إن الطريق نحو إقامة غرف الغاز وتجهيزها للمحرقة الكبرى بات مفتوحا وممهدا. والذين تحدثوا عن إحراقهم بالكيروسين أو اعتبروا أن مجرد الإعدام قليل على رموز المعارضين، حتى إذا كانوا يمثلون أصواتا استثنائية، يهيئون الأذهان للقبول بفكرة المحرقة.
ربما جاز لنا أن نقول الآن إننا بصدد الدخول في طور التفكير السياسي. ذلك أنه إذا كنا قد شهدنا تراجعا لدعاة التكفير الديني الذين يخرجون من عداهم من الملة الدينية، فإننا الآن نواجه تكفيرا مماثلا في مصر لإخراج المخالفين من الملة الوطنية.
لا أمل لنا في تجاوز هذه المحنة سوى أن نراهن على ثبات القلة القليلة من أصحاب الضمائر التي لم تشوه ولم تمت، لأنهم وحدهم يقدمون الدليل على أن الجنون ليس مطلقا، وأنه لايزال في مصر بقية من عقل تعطينا بصيص أمل في مستقبل أكثر تفاولا وأقل تعاسة.
“الشروق”