ربما لا يصح لأحد أن يخلط الأوراق، أو أن يتصور أن بوسعه خداع الناس في لحظة خطر عاصف، فالمهمة الآن هي تحرير البلد، إن شئنا أن يعيش أهله أحرارا.
وحين يخرج ملايين المصريين مجددا إلى الشوارع، فهم يخرجون لتثبيت أقدام الثورة، ولتجديد نداء 30 حزيران/يونيو 2013، وهو اليوم الحاسم والمحوري في حياة ثورة بدأت في 25 كانون الثاني/يناير 2011، وشهدت مسيرتها تعثرات وإعاقات مستمرة حتى هذه اللحظة، فلم يكن مجلس طنطاوي وعنان أمينا على الثورة، بل كان مجرد طبعة عليلة من حكم جماعة مبارك ذاتها، وكان حكمه امتدادا للثورة المضادة بالمبنى والمعنى، كان استطرادا لحكم الثورة المضادة والانقلاب على الثورة الأم في 23 يوليو 1952، وكذلك فعل حكم الإخوان، الذي كان تجديدا لحكم الثورة المضادة بالمعنى دون المبنى، فقد تغير الشخوص، وبقيت الاختيارات كما كانت، وأعادت صنع المأساة المصرية ذاتها، مأساة بلد ضاع استقلاله الوطني، وتحول إلى مستعمرة للأمريكيين، وإلى مجتمع الطبقة الأغنى في المنطقة، ومجتمع الشعب الأفقر في المنطقة، فقد ظلت مصر أسيرة ـ كما كانت ـ لاختيارات الولاء للأمريكيين وحفظ أمن إسرائيل ورعاية مصالح رأسمالية المحاسيب، وهذا هو السبب الجوهري لتجدد الثورة في 30 يونيو 2013، التي كانت أعظم وأكبر تجمع ثوري في التاريخ الإنساني بإطلاق عصوره، واجتاحت حكم الإخوان في ضربة كبرى، لم تكن مفاجئة، بل سبقتها هبات مليونية الطابع في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، وفي الذكرى الثانية لموجة الثورة الأولى في 25 يناير 2013، كانت الأزمة تحتدم، ودعوى الشرعية الإجرائية تسقط بسرعة، فقد ولي محمد مرسي الإخواني رئاسةمصر في انتخابات عامة أجراها مجلس طنطاوي وعنان، وبعد عقد صفقات في الظلام بين الطرفين، كان أظهرها في تعديلات المادة (8) من قانون الأحكام العسكرية، التي منحت طنطاوي وعنان وشركاءهما حصانة ضد المحاكمات أمام القضاء الطبيعي، وبالذات في جرائم المال والدم، ثم كان ما كان من إعلان فوز مرسي بالرئاسة، وما بدا من استبدال سلس لمراكز طنطاوي وعنان في قيادة الجيش، وهو ما كان موضع ارتياح ظاهر لدى القوى الثورية، لكن هذه القوى ذاتها لم تواصل ارتياحها لرئاسة مرسي الكئيبة، وبالذات عندما أصدر مرسي إعلانه الدستوري المنكود في 21 نوفمبر 2012، عند هذه اللحظة تحول الخلاف إلى شقاق وفقدان ثقة بمرسي، وفقد مرسي ما تبقى من شرعيته الإجرائية، فقد هدم مرسي شرعية انتخابه بنفسه، أو هدمها له مكتب الإرشاد الذي كتب له نص الإعلان المنكود، وكانت تلك نهاية قصة مرسي كرئيس منتخب، ولم يفده إعلانه العبثي اللاحق بإلغاء الإعلان، فقد استبقى آثاره الباطلة في الدستور ومجلس الشورى، وصارت القصة كلها بطلانا في بطلان، فالسلطة المنتخبة مقيدة بطبيعتها، السلطة المنتخبة مقيدة بشروط انتخابها، وقد جرى انتخاب مرسي رئيسا للسلطة التنفيذية، وليس حاكما بأمره، ولا بأمر مكتب الإرشاد، وقد فسخ مرسي بإعلانه المنكود ـ ثم باستبقاء آثاره ـ نصوص العقد الضمني بينه وبين الناخبين، ومنذ هذه اللحظة، تحول وجود مرسي في الرئاسة إلى سلطة اغتصاب، وهذا ما قلناه من وقتها بالضبط، فقد قلنا ـ وقتها ـ ان مرسي فقد شرعيته الإجرائية تماما، وأقدم على أول جريمة خيانة عظمى بخيانة الدستور، وقلنا ان الشرعية ـ بعد انقلاب مرسي ـ عادت للأصل أي للناس، وأن الشرعية الكاملة توافرت لمبدأ الخروج السلمي عليه، وحتى يتحقق هدف عزله وخلعه لمن استطاع إلى ذلك سبيلا.
وفي أول أيام العام الجاري، قلنا ان 2013 هو عام النار في مصر، وقلنا ان الاحتقان الاجتماعي والسياسي سيواصل مسيرته، وان يوم خلع مرسي صار أقرب من طرف الإصبع، وهو ما تحقق في عاصفة بشرية جبارة اجتاحت مصر بدءا من الخامسة مساء الثلاثين من يونيو، وصدر فيها أمر الشعب، القائد الأعلى لقواته المسلحة، ولم يكن للقيادة العامة للجيش، ولا للفريق أول عبد الفتاح السيسي، لم يكن لأحد إلا أن ينفذ، ويخلع سلطة الاغتصاب والفشل والخيانات، وأن يفتح الطريق لفترة انتقالية قصيرة، يكتب فيها الدستور، ويستفتى عليه الشعب، ثم تجري انتخابات البرلمان فالرئاسة، فيما لا تحظى الرئاسة المؤقتة وحكومتها سوى باعتبار بروتوكولي عابر، فهي ليست سلطة منتخبة ولا هي سلطة ثورية، وعناصرها ـ في الأغلب ـ من جماعة النظام الذي ثار عليه الشعب.
وهنا لابد من التوقف تجنبا لخلط الأوراق، فوصف ماجرى بالانقلاب العسكري مجرد كلام فارغ، فعقب الموجة الثورية الأولى في 25 يناير 2011، وخلع مبارك في 11 شباط/فبراير 2011، آلت السلطة كاملة ومباشرة إلى المجلس العسكري، أي إلى قيادة الجيش وقتها، ولم يتحدث الإخوان وقتها عن انقلاب عسكري، ولا تحدث الأمريكان، والسبب ظاهر، وهو أن الإخوان وقتها كانوا مشغولين بالتمكين للجماعة على حساب الثورة، وبعقد الصفقات مع مجلس طنطاوي وعنان، وبكسب عطف الأمريكان، وبتطمين إسرائيل على المودة وحسن الجوار، ولم يكن يعنيهم أن تذهب مصر إلى الجحيم، مادام قادة الإخوان يرفلون في النعيم، وطبقوا ـ مع حكمهم البرلماني فالرئاسي ـ مبدأ ‘طظ في مصر’، ثم طبقوا مبدأ ‘طظ في الثورة’، ووصلت بهم الصفاقة إلى حد الإدعاء بالتطابق بين الإخوان والثورة، مع أنهم ـ أي قادة الإخوان لا شبابهم ـ آخر من التحقوا بالثورة، وأول من خانوا الثورة، ثم خانوا البلد كله، وخذلوا الملايين التي أعطتهم أصواتها بفشلهم المذهل، ثم بتصالح مليارديرات الإخوان مع مليارديرات جماعة مبارك، وتحويل فرصة الرئاسة إلى ‘أوكازيون’ لحجز مقدرات مصر كلها في جيب قادة الجماعة، ولم يبالوا بفقدان مرسي لشرعيته الإجرائية، ولا بفقدان حكم الإخوان لشرعية الرضا العام، وتصوروا أن بوسعهم حكم مصر بالتخويف واغتيال قادة الثورة في ميادين الغضب، ومن دون أن يدركوا أن الأرض تميد من تحت أقدامهم، وأن الشعب الذي كسر حواجز الخوف بخلع مبارك في 18 يوما، هو الشعب نفسه القادر على خلع حكم الإخوان في هبة ريح، وقبل أسابيع وشهور طويلة سبقت عزل مرسي فعليا، نصحنا مرسي وجماعته بالاختيار الوحيد الذي كان صحيحا، وهو أن يقدم على الاستقالة، ويدعو لانتخابات رئاسية مبكرة، أو أن يجري استفتاء طبقا لنص المادة 150 من دستوره، ويسأل فيه الناس عن رأيهم في إجراء انتخابات مبكرة، ووقتها رفض مرسي، ورفض الإخوان في عناد وصلف وكبر وعجرفة، فهم يعرفــــون النتيجة سلفا، ويعرفون أن جماعة الإخوان نزلت على اللحم، ولم يعد يناصرها سوى أفرادها، والموزعون الآن في تجمعات محدودة أكبرها عند إشارة رابعة العدوية، وفقـــــدت الجماعة شعبيتها التي كونتها في أربعين سنة مضت، فقدت شعبية الأربعين سنة في سنة واحدة من الرئاسة، وكانت تلك التجربة دراما هائلة في حياة الشعب المصري، أعادت بناء وعيه الثوري من قلب محنة حكم الإخوان، وأعادت وصل ما انقطع مع زمن ثورة عبد الناصر في 23 يوليو 1952، الذي انقلب عليه السادات ـ بعد حرب 1973 ـ ثم مبارك، وهو ما يفسر ظاهرة الشعبية الفياضة للفريق أول عبد الفتاح السيسي، التي تبدو ـ في كثير من ايحاءاتها ـ كأنها استدعاء لعبد الناصر جديد.
نعم، لقد بدأت ، بخروج الملايين في فيضان بشري كاسح، وبحركة الناس الأحرار هذه المرة، وليس بحركة الضباط الأحرار.
‘ كاتب مصري