ميز الشعب الموريتاني بمستوى من الوعي غير المؤطر، كان جديرا بأن يحسد عليه، لولا أن ذلك الوعي لم يعد بالفائدة المرجوة على البلد، و الحال يُغني عن السؤال. و بينما تنغمس الغالبية العظمى من الموريتانيين في السياسة حتى النخاع، و يفتأ البعض يدعو إلى “ثورات” على مختلف الأصعدة، فإن الأولى بنا أن نطالب بثورة “مهنية”، نُهيب من خلالها بالجميع أن يصلحوا كل من موقعه، و نبدأ بإخوتنا العاملين في مجال الصحة، ذلك أن قطاعهم هو الأكثر حيوية.
ليس بوسعنا أن نعمم، فلا يمكننا أن نُنكر وجود أخصائيين و أطباء و ممرضين يقومون بعملهم بكل تفان – رغم النقص الحاد في الوسائل و التجهيزات الطبية. إلا أنه غني عن القول إن أي زيارة خاطفة لأي مستشفى سـتُـشعر صاحبها ليس فقط بقلة كفاءة الطواقم الطبية، و إنما أيضا باستهتار تلك الطواقم بالحياة البشرية.
في المستشفيات الوطنية تسمع قصصا يشيب لها الولدان عن الإستهانة بالحياة الإنسانية. و لكي ترى رأي العين، ما عليك إلا زيارة أقرب مركز صحي. و مهما كانت الزيارة خاطفة، فستلاحظ ثلاثة أمور تقشعر لها الأبدان:
أولا: إهانة منقطعة النظير للمرضى و ذويهم و من يعودهم، ففي حالة اشتكاء أي مريض، فإن رد الأطباء أو الممرضين غالبا ما يكون: “نحن لسنا نَـرُد الموت!” و “أنت لا أمل في شفائك” ثم “لا يهمنا سواء مِـتـم أم شُـفـيـتــم”! و لعل أحدث فضائح المستشفى هي وفاة 5 توائم لغياب الرعاية الصحية. كما أن سلوك بعض العاملين في قطاع الصحة تسمئز منه الفطرة البشرية السليمة، فيكفي أن يزور صديق أحد الأطباء ليترك ذلك الطبيب المرضى و يتبادل أطراف الحديث مع ذلك الصديق، على أنغام أنات المرضى! كما أن أي مكالمة هاتفية، مهما كانت مُوغلة في السخافة، تدفع بالكثير من العاملين في القطاع إلى أخذ قسط من الراحة، قد يطول أو يقصر تبعا للمكالمة. ثم إنه في مستشفياتنا يموت العديد من الذين يَصلون في حالات حرجة، لأنه ببساطة لا أحد في المستشفى سيُوليهم أي اهتمام، طالما لم يدفعوا الأقساط الطبية.
ثانيا: الأخطاء الطبية هي القاعدة! فمن النادر جدا أن يدخل شخص ما المستشفى و يخرج منه دون أن يكون “فأر تجارب” لقريحة متخصص أو طبيب أعماه الجشع حتى عن استعمال فكره لتشخيص العلة التي يعاني منها المريض. و يبدو أن بعض أطباءنا وجدوا ضالتهم في حمى الملاريا و في الزائدة الدودية، فصاروا يُجرون للجميع جراحة لهذا أو علاجا لتلك! كما لا تكاد أي امرأة تضع مولودا إلا عن طريق القيصرية، و هو أمر يُعلّـله المواطنون بالتكاليف الباهظة لتلك العملية، و الدخل الكبير الذي تدره على من يُجريها!
ثالثا: و كما في معظم القطاعات الأخرى، فإن قطاع الصحة العمومي قد تم تقزيمه، فاتحا المجال للخوصصة المتوحشة، فصار نصيب الأسد من أوقات الغالبية العظمى من الطاقم الطبي مكرسا للعيادات الخاصة و التي لا يرتادها إلا المحظوظون، وهم قلة قليلة في بلد فقراء يُعرّف رئـيـسـه بالإضافة إليهم! و بالتالي فإن أي مريض اليوم يجد نفسه بين خيارين، إما انتظار المواعيد العرقوبية في المستشفيات العمومية، أو الذهاب إلى العيادات الخاصة، و هو الخيار المفضل لدى معظم الأخصائيين. بل إن معظم الأطباء على ما يبدو يَعتبر وقته في المستشفيات العمومية فرصة ذهبية للإعلان المجاني لصالح عيادته الخاصة!
و خلاصة القول إنه في بلدنا فإن الخدمات الصحية متردية بشكل منقطع النظير، ليس فقط لنقص التجهيزات الطبية، و انتشار الأدوية المغشوشة، و لكن أيضا في سلوك معظم عمال الصحة، و الذين يُخيل إليك، و أنت ترى تعاملهم مع المرضى، أنهم يخوضون حرب إبادة ممنهجة ضد إخوتهم في الدين و الوطن! نسأل الله أن يُكثر من أمثال عمال الصحة الذين يتفانون في عملهم و يتقنونه.