19 أبريل 2024 , 3:11

خواطر حول فقيد أمة… ورجل دولة

في ذكرى مرور أسبوع على رحيل المرحوم اعل بن محمد فال

لم يسبق لي أن تعرفت عن قرب على المرحوم اعل ولا جمعني وإياه مجلس واحد أبدا، لكن أخبار الإنسان تبلغ مداها كما يقال خاصة إذا تعلق الأمر بشخصية محورية في المشهد السياسي والأمني لفترة طويلة عرفت فيها الجمهورية الكثير من التحولات .

وإني إذ أجدد العزاء لنفسي، ولعائلة المرحوم الكريمة ،وللشعب الموريتاني، أسجل هنا جملة من الملاحظات يتعلق بعضها بما عرفه الناس عن المرحوم من خصال ،ويتعلق بعضها الأخر بمدى الفراغ الذي تركه رحيله.

والأعمار قطعا بيد الله مقدرة ومحسوبة لكنه ربط الأسباب بمسبباتها ولعل حجم الهموم التي تعتمل في صدر الرجل فاضت عن صبره فعجلت بانطفاء هذه الشمعة.

*لقد عرف الناس فيه رجلا شهما شجاعا كان يعمل أكثر مما يتكلم.

*وقد شهد له الناس ببر نادر لأمه ،ومعنى ذلك في مجتمعنا الشنقيطي الذي يألف صفة البر بالوالدين-لله الحمد-أن الرجل امتاز بشيء زائد عن المألوف من هذه الخصلة المحمودة.

*لقد استطاع الرجل رغم حساسية منصب المدير العام للأمن الوطني أن ينأى بنفسه عن سجل حقوق الإنسان ،وجرائم القتل والتعذيب التي مورست ضد بعض الحركات السياسية، وبعض الانقلابيين ، وبعض المجموعات العرقية ، وأسجل هنا أن اللوائح التي كانت توزع في باريس و داكار ونيويورك على منظمات حقوق الإنسان – والتي شملت مجموعة كبيرة من العسكريين والمدنيين- لم يرد فيها اسم الرجل أبدا رغم أن بعض معاونيه في إدارة الأمن لطّخوا أعراضهم بورود أسمائهم في تلك اللوائح المقيتة.

*اذكر هنا بعض النماذج الايجابية التي تعكس مدى حكمة الرجل في إدارة الملف الأمني المكلف به ،وأنه ليس مجرد آلة أو أداة تنفيذية ،ففي الفترة الأخيرة لنظام ولد الطائع طالت الاعتقالات كل التنظيمات المشتغلة بالشأن الديني، خاصة إذا كانت لها تحويلات مالية معتبرة ،فأغلقت مكاتب المنظمات والهيئات، وأغلق المعهد السعودي، وصدرت للمرحوم أوامر باعتقال الشريف الصعيدي الشيخ علي الرضى ،وقد أخبرني أحد العدول من خاصة هذا الأخير أن اعل جاء إليهم بعد المغرب متخفيا في دراعة بسيطة ولثام، فطلب لقاء الشيخ، فرد عليه أحد المريدين بأن ذلك غير ممكن ،فعرّف على نفسه وحين أدخلوه إليه طلب منه مغادرة التراب الوطني قبل الساعة التاسعة صباحا مع التحفظ على وجهته ورفاقه ،وفي الساعة التاسعة صباحا جاءت الشرطة إلى المنزل تبحث عنهم .وقد ظلوا خارج البلاد إلى أن حصل انقلاب2005.

*قبل ذلك بأكثر من عقد من الزمن وتحديدا سنة 1992 عندما أراد الإخوان تأسيس حزب سموه <<حزب الأمة>> نسجا على منوال حزب الترابي والبشير ،و سبّب الخطاب الديني لهذا الحزب إحراجا كبيرا للسلطة فمنعت الترخيص له ،وفرقت جموع أهله ،واعتقلت الأستاذ محمد ولد سيدي يحي

الذي أريد له أن يحمل اللواء في ذلك الحزب ،عندها استدعى المرحوم اعل اثنين من أنشط الجماعة وأكثرها تأثيرا (أتحفظ هنا على الأسماء) لكنها معروفة موصوفة لمن طالع <<قصتي مع المخابرات حقيقة أم خيال>>للمرحوم التجاني المكي ،والذي يهمني من هذا المشهد أن اعل رحمه الله استدعى >>PRDSالرجلين قائلا :<<أما أنتما فالإسلام الذي عندكما اجعلوه لنا في الحزب الجمهوري

أما أحد الرجلين فآوى إلى ولد الطائع فآواه إلى درجة أن يستقبل شالوم ويتبادل معه الابتسامات الخجولة أمام الكاميرا،وأما الآخر فهرب بجلده وآثر الهجرة إلى الخارج ،فقطع أزلام النظام راتبه وعدّوه في الموتى .والشاهد في القصة كما أسلفنا حنكة الرجل في إدارة الملف الأمني .

*إن المرحوم أعل وافق على الانقلاب على ولد الطائع بعد أن كادت السفينة تغرق بكل من فيها،فكان ارتكاب أخف الضررين أهون. وقد امتازت المرحلة الانتقالية التي أدار فيها دفة الحكم بفتحها آفاقا واسعة لعودة المهجرين، وللمشاركة السياسية، لكن التوازن يكمن في ما صرح هو به خلال زيارته للسنغال من أن عودة الموريتانيين إلى وطنهم تتم تلقائيا ودون شروط مسبقة ، وأنه بعد العودة يمكن بحث كل الملفات ، وكان من حكمة الرجل رفضه الشروط المسبقة التي تم القبول بها لاحقا ، والتي أدت مع حركة <<لا تلمس جنسيتي >> إلى تجنيس الكثيرين من غير الموريتانيين، وهنا تمكن نقطة التوازن الصعبة في هذا الملف .

* خلال الثمانية عشر شهرا التي قضاها الرجل في موقع القرار الرئاسي أنجز أهم تعديل استفتائي دستوري يضمن التناوب على السلطة، ويحدد عدد مأموريات الرئيس، ويحصن المواد المتعلقة بذلك من التغيير لاحقا.

* خلال تلك الفترة ألغيت المادة 11 من مرسوم عمل الصحافة التي كانت سيفا مسلطا على حرية الصحافة، وتم تنظيم صندوق دعم الصحافة رغم النواقص القائمة في هذا المجال إلى اليوم.

* ولعل موظفي الدولة يذكرون أنهم قبل هذا العهد لم تكن لهم رواتب ، بل كانت السياسة المتبعة معهم هي سياسة <<جوع كلبك يتبعك >> ، وليسمح لي الموظفون هنا بأنه لولا أن المستقلة للانتخابات منحت الرجل في انتخابات 2009 صفرا في مكتب الإدارة العامة للعقارات حيث أدلى هو وعائلته وحاشيته بأصواتهم في هذا المكتب رغم الصفر المعلن، وهو حادث علق عليه هو في حينها أمام الصحافة ، لولا التي حصل عليها في تلك الانتخابات .%ذلك لاتهمت الموظفين بعدم الوفاء له بالنظر إلى نسبة 3

* إن العلاقة مع دول الجوار تحسنت في تلك المرحلة الانتقالية التي كان ينظر في نهايتها – على الأقل خارجيا- إلى موريتانيا بوصفها رائدة في مجال الديمقراطية والتناوب السلمي على السلطة وتحرير الإعلام-على الأقل- في إفريقيا والعالم العربي ، ولعل هذا المشروع كان أهم انجاز يتطلع الرجل إلى تحقيقه وتمثله واقعا في حياة الأمة الموريتانية ، لكن نخبنا المدنية والعسكرية لم ترد لهذا للمسلسل أن تكتمل حلقاته ، بل منعت أن يولد التغيير الديمقراطي، والحكم المدني ولادة طبيعية ، بل شوهت المصالح الأنانية هنا وهناك كل الظروف المحيطة بميلاد القادم الجديد .

خلاصة هامة :

إن الخسارة برحيل اعل بن محمد فال تكون أكبر إذا لم يكن الرجل قد دون مذكراته ، وليست لدي معلومات حول هذا الموضوع ، لكني أعلم علم اليقين أنه من بين أفراد قلائل يعرفون الحقيقة التاريخية في ملفات عسكرية وأمنية وسياسية من حق الأجيال أن تعلم عنها ،ومن تلك الملفات على سبيل المثال لا الحصر :

– علاقة النخب السياسية المدنية بالجيش الموريتاني منذ انقلاب اللجنة العسكرية للخلاص الوطني سنة 1978 إلى اليوم، وقد أشار الرئيس الحالي محمد بن عبد العزيز مؤخرا إلى أن الجيش كان محكوما به.

– طائرة المرحوم العقيد أحمد بن بوسيف والظروف المحيطة باختفائها.

– سلسلة الصراعات على السلطة داخل المؤسسة العسكرية .

– سلسلة الانقلابات وأجنحتها المدنية، وعلاقة ذلك بدول الجوار .

– أحداث إبريل 1989 وما أعقبها من انعكاسات داخلية وخارجية .

الرئيس الفرنسي ميتيران وإلزام القادة الأفارقة في بداية التسعينيات بشرعنة أنظمتهم ديمقراطيا ، وانعكاس ذالك على موريتانيا .

– أثر اتفاقيات البنك الدولي وارتفاع المديونية على موريتانيا

– انتخابات 1992 وما سبق أن أشار إليه هو تلميحا من حصول انقلاب على نتائج تلك الانتخابات.

– طائرة والي انواذيبو التي اختفت غداة الانتخابات ، وعلاقة اختفائها بنتائج الاقتراع ، وما يشاع عن وجود اتفاق سري بين الدولة وأقارب الضحايا يمنع هؤلاء من رفع دعوى للمطالبة بالكشف عن مصير ذويهم في مقابل بعض الامتيازات .

– ملف الإرث الإنساني وعلاقته بالعلاقة مع أمريكا وإسرائيل .

– الحرب على الإرهاب، والعمليات الإرهابية في موريتانيا ، وأسرى أكوانتنامو .

– وأخيرا غرفة عمليات التحول الديمقراطي 2006 – 2007 وتشكيل البرلمان والحكومة ، والصفقة التي بموجبها جاء مسعود لرئاسة البرلمان ، والزين لرئاسة الحكومة ،ولبس فيها سيد محمد بن الشيخ عبد الله ثوب الرئاسة وهو يغني مع عمر الخيام <<لبست ثوب العيش لم أستشر – وحرت فيه بين شتى الفكر – وسوف أنضو الثوب عني ولم – ادر لماذا جئت أين المفر؟ >> .

إنني بوصفي مراقبا أكاديميا ينظر إلى مجريات الأحداث في بلاده من خارج المسرح السياسي للعبة أعتقد أن الكثيرين يتقاسمون معي الشعور بأهمية أن لا تضيع هذه الملفات دون تمحيص الحقيقة التاريخية فيها، وغربلتها، واستجلاب معلوماتها من مصادر مختلفة. ولعل المرحوم اعل – وهو الرجل الكتوم- يشكل مصدرا هاما لتلك الحقبة من تاريخنا السياسي ، لكن الشمعة انطفأت بكل أسف فهل بقي لمداد الحبر من ذكرياتها على أديم أرضنا ما نركن إليه ؟

رحم الله أعل واسكنه فسيح جناته، وإنا لله وإنّا إليه راجعون.

محمد علي عم الأمين

أستاذ القانون الإداري بجامعة نواكشوط والمعهد الجامعي المهني

ameleminaly@gmail.com

شاهد أيضاً

تساؤلات من مراقب !!!/ التراد ولد سيدي

في ظروف توالد وتكاثر المبادرات التي يتنافس فيها الآخيرون مع الاولين في إظهار ولائهم الحقيقي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *