20 أبريل 2024 , 4:26

دلالــة لـقــاء أوبـامــا وبــيــراما/ حسن ولد احريمو

995056_10202957741414368_756796508_n

لاشك أن مدينة دكار، والسنغال بصفة عامة، تعني الكثير بالنسبة لقوى التحرر ومكافحة الاستعباد والاسترقاق، في القارة السمراء والعالم. فهناك جزيرة “غوري” ذات الذاكرة النازفة بمعاناة الإنسان الأسود طيلة القرون الأربعة الماضية، منذ انهالت قوى الظلام الغربية على شواطئ القارة السمراء الغربية، مرتكبة واحدة أفظع الجرائم في التاريخ الإنساني كله، باسترقاق واستعباد عشرات الملايين من الأفارقة، والمتاجرة بهم في موانئ القارة الأوروبية، ثم المغامرة بهم بعد ذلك في سفن مهترئة مليئة بالجرذان والأوبئة وفي ظروف من التجويع والترويع لا توصف، لقطع عرض المحيط الأطلسي، وصولاً إلى بيعهم في أسواق نخاسة جزر الهند الغربية (القارة الأميركية) حيث تم استعبادهم لقرون سقوا فيها سهول الأرض الأميركية بسيول من الدموع والعرق والدماء. ومن المعروف تاريخياً أن ثلثي “شحنة” معظم سفن النخاسة المنحوسة تلك، من الأفارقة، كانوا يموتون في الطريق في أهوال الرحلة وحدها إلى الجانب الآخر من الأطلسي، بسبب الأمراض والعطش والجوع (كانت حصة الفرد من الغذاء كمشة من الفول السوداني كل 24 ساعة)!
من الاسترقاق إلى الانعتاق
ولاشك أيضاً أن دكار والسنغال بصفة عامة تعني الكثير كذلك بالنسبة لقوى التحرر والانبعاث والانعتاق الأفريقية، وهي البلاد التي ارتبطت بحركة الزنوجة المعاصرة بكل دفقها الشعري، والسحري، وأشواقها الجياشة نحو الانطلاق والانعتاق، من كل الحدود والقيود التي كبلت الإنسان الأسود، عبر ظلام القرون. وقد ارتبطت السنغال في المخيال الثقافي بحركة الزنوجة La Négritude وخاصة مع شاعرها الكبير الرئيس ليوبولد سيدار سنغور، ورفاق دربه في النضال الثقافي الزنجي ضمن عصبة “الطالب الأسود” مثل إيمي سيزير وبيراغو ديوب وديفيد ديوب ورينيه ماران وليوبولد كونجو- مبامبا وغيرهم كثير.
تماماً مثلما ارتبطت سنغال ذاتها، وربما سينغور أيضاً، بمظاهر الاسترقاق الثقافي الجديد، للإنسان الأفريقي، وقد ظلت على الدوام حاضنة لانسلاب الهوية والثقافة وتغريب اللغة وأنماط القيم، على مستوى أفريقيا الغربية على الأقل، وهو دور وحضور أهلها له ترسخ التقمص الوجداني والتعاطف الرمزي مع الثقافة الفرنسية في صفوف نخبة ثقافية صنعها الاستعمار على عينيه، وأنساها ذكر جذورها بل بذورها الثقافية، على امتداد أكثر من ثلاثة قرون متواصلة من الاستعمار الإلحاقي المباشر الذي يحسبه بعض المستلبين استصفاء وعلاقة خاصة مع فرنسا! وليس خلواً من المعنى أن الرئيس عبده ضيوف بعد أن تولى أعلى منصب رسمي في بلاده سنغال، وخرج من الرئاسة، تولى منصب رئاسة المنظمة الدولية للفرانكوفونية، وكأن في الأمر ترقية، قبل أن تكون تزكية، أو كأن دورة حياة السياسي الأفريقي ينبغي أن تتطور هكذا “تصاعدياً”، من خدمة أفريقيا إلى خدمة فرنسا!
أوباما والزنوجة التقدمية
ولكن على رغم كثرة الدلالات الرمزية والثقافية السياسية في زيارة الرئيس أوباما للسنغال ولأفريقيا عموماً، وهو أول رئيس غير أبيض للولايات المتحدة الأميركية، إلا أن ما لا يعرفه بعض مستقبليه الأفارقة هو أن قضايا العرق والزنوجة لا تعني شيئاً كبيراً بالنسبة له، وأنه يفكر في أفق إنساني أكثر رحابة ورقياً مما يتصورون. ومن المعروف عنه طيلة حملاته الانتخابية لكلتا دورتيه الرئاسيتين حرصه الشديد على عدم التعرض لأمور الأعراق، ومظالم السود والملونين وتظلماتهم المشروعة، إلا في سياق عام مرتبط بقضايا الحريات العامة والحقوق المدنية في معناها الوطني والإنساني العام الأكثر جاذبية ورومانسية. وهو في هذه المقاربة المتسامية على أعباء الماضي، وجراح الذاكرة، يسير على نهج سلالة ذهبية رفيعة من المناضلين الحقوقيين الأميركيين العظماء مثل مارتن لوثر كينج والقس جيسي جاكسون وغيرهما كثير.
مواطن أميركي.. وكفى
وخلال الحملة الانتخابية الباهرة عام 2008 التي أوصلته إلى البيت الأبيض حاولت بعض جماعات الحقوق المدنية السوداء جر حملة أوباما للانخراط في بعض سجالاتها مع اليمين العنصري الأميركي، فترفع هو بكل سمو نفس عن الخوض في ذلك المستنقع الرديء مع الخائضين. لأنه يعتبر نفسه أميركياً وكفي وليس أسود أو أبيض. ولو كان انجرّ إلى هذا الفخ لما فاز في الانتخابات أصلاً في بلاد تشكل الطبقة الوسطى- الدنيا البيضاء معظم سكانها من الناحية الديموغرافية. هذا مع أن دعاوى حركات الحقوق المدنية السوداء الأميركية رهان صائب وجذاب فعلاً من الناحية الأخلاقية، لتفشي العنصرية والتفاوت الشديد، ولتجذر الغبن الاجتماعي التاريخي البنيوي الواقع على السود الأميركيين حتى الآن. ولكن بُعد نظر أوباما هو ما أقنعه بعدم محاكمة مظالم الماضي بمنطق الحاضر، أو الارتهان لثقافة اجترار هجاء تلك المظالم العائدة إلى الزمن الماضي، بدل الانخراط في تجاوزها الآن عملياً على الأرض من خلال سياسات وتدابير مؤثرة في الزمن الحاضر.
وليس سراً أن في أميركا تنوعاً عرقياً وعنصرياً خارقاً لكل مألوف. ففيها قرابة %15 من السود، ونسبة تقارب 25% من الهيسبانيك، وأغلبية كبيرة ولكن متناقصة من “الواسب” البيض. وفيها جماعات عرقية أخرى كثيرة أوسعها انتشاراً الأقليات الآسيوية العريضة مثل الصينيين واليابانيين والكوريين والإيرانيين والعرب وغيرهم. وفي أميركا أيضاً جماعات دينية بيوريتانية طهرانية متخلفة، أو على الأقل مختلفة، عن كل ما هو شائع في المخيال الخارجي عن المجتمع الأميركي. فهنالك جماعات “الكو كلوكس كلان” الرافضة لمظاهر الحضارة والمدنية المعاصرة. وهنالك الجماعات الدينية المنغلقة نسبياً مثل المورمون. وقبل هذا وذاك توجد أغلبية دينية إنجيلية شديدة التطرف في تفكيرها الديني القروسطي.
ووسط هذه الفسيفساء العرقية والدينية آثر أوباما تقديم نفسه لشعبه باعتباره مواطناً أميركياً دون أي تصنيف أو تنميط عرقي أو عنصري. فهو رجل خلاسي مخلّط عرقياً (كمعظم البشر)، من أب أسود وأم بيضاء. ولولا العنصرية الثقافية أو على الأقل اللفظية لدى “الواسب”، السارية في الشارع الأميركي، لما اعتبر أوباما أصلاً “أول رئيس أسود للولايات المتحدة”. لأنه في الحقيقة ليس رجلاً أسود، بالمعنى التقليدي الذي نفهمه نحن الأفارقة من هذه العبارة. ولكن كل من ليس أبيض أوروبي الملامح يعتبر في الثقافة الأميركية ملوناً أو أسود. وقد كان أوباما في خطابه السياسي، وسلوكه الشخصي، إنساناً، مترفعاً عن أي تقوقع أو تشرنق أو تخندق ضيق ضمن تصنيفات الأجناس والأعراق. دون أن يعني هذا أيضاً تنكراً لذاته الأفريقية، وأصوله الزنجية. ودون ادعاء لأية ذات استيهامية مستلبة أخرى، أو خروج من الجلد، كما يفعل بعض مستقبليه الأفارقة.
أوباما ليس أسود
وقد لاحظ عالم الاجتماع الشهير ذو الأصل الكيني الدكتور علي المزروعي أن من عوامل فوز أوباما في الانتخابات الرئاسية سنة 2008 سبب لم يلتفت إليه كثيرون، وهو أنه متزوج من السيدة ميشيل، وهي امرأة أميركية سوداء، وليس متزوجاً من امرأة بيضاء أو شقراء كما يفعل معظم الساسة الأفارقة الحالمين بالوصول إلى الرئاسة في يوم من الأيام! وفي هذا كان أوباما رجلاً أسود دون عقد، مفتخراً بأصوله، وليس لديه مركب نقص تجاه الأميركيين البيض يجعله يبحث عن كمال أو “رفعة” سْنوبية زائفة عندهم. ويرى المزروعي أن أوباما لو كان متزوجاً من امرأة بيضاء لما وصل أبداً إلى الرئاسة، لأن نسبة كبيرة من الطبقة العاملة الأميركية البيضاء، وهي الأغلبية، ستصوت ضده، لتأصل وتجذر الثقافة العنصرية في صفوف الفئات العاملة الأقل دخلاً من المجتمع الأبيض الأميركي.
والحاصل أن مفهوم أوباما للزنوجة، وللنضال الحقوقي لرفع المظالم والظلاميات عن كاهل الإنسان الأسود، مختلف تمام الاختلاف عن، ولا يكاد يمت بصلة إلى مفهوم معظم مستقبليه الأفارقة في دكار. فرؤية أوباما الديمقراطية التقدمية، الليبرالية ذات النزعة الشمولية، بل الرسولية شبه الأصولية، تجعله ينظر إلى مفاهيم الحرية والعدالة الاجتماعية في سياق إنساني أشمل، وأكمل، وأجمل، مما يتصور بعض مستقبليه الحقوقيين، حيث يُتوسل أحياناً خطاب الانفعال والاستعجال والارتجال سبيلاً للنضال، وحيث يحل العنف اللفظي والخطاب الإقصائي الاستئصالي بدل اتباع أساليب الحوار والإقناع المتحضر، وخلق شراكة نضالية، للدفاع عن قضايا الحرية والعدالة الاجتماعية، ضمن أطر وطنية جامعة عابرة للأعراق، ومتسامية على الوقوع في فخاخ أية عنصرية أو ظلامية مضادة. ولكن هذا حديث آخر، وسيكون موضوع الحلقة الثانية من هذا المقال، إن شاء الله.

من صفحة الإعلامي حسن ولد احريمو على الفيسبوك

شاهد أيضاً

تساؤلات من مراقب !!!/ التراد ولد سيدي

في ظروف توالد وتكاثر المبادرات التي يتنافس فيها الآخيرون مع الاولين في إظهار ولائهم الحقيقي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *