20 أبريل 2024 , 11:22

تمبكتو.. مدينة المآذن والأولياء والمكتبات

على مدارج القرون تمتد صحائف مدينة تمبكتو بوصفها واحدة من أهم عواصم الإسلام في الغرب الأفريقي، وبامتدادها على ضفاف التاريخ تمتد بنت الصحراء بين الرمال الممتدة امتداد آمال سكان إقليم أزواد في الحرية والاستقلال، وبين ضفاف نهر النيجر العتيق الذي احتضن هو الآخر كثيرا من التاريخ المنسي في المنطقة التي لا تهدأ فيها أصوات الرصاص.

يعود تأسيس المدينة إلى القرن الحادي عشر الميلادي، ففي قرابة 1080 ميلادية أصبحت تمكبتو مدينة تتزود منها القوافل وينطلق منها العلماء ويؤوي إليها طلاب العلم والثراء.

ومن الروايات المتداولة أن اسم تمبكتو يعني بئر بكتو، وهي عجوز طارقية نسب إليها المكان، الذي استقرت فيه قبائل طارقية متعددة، كانت تجعله في الماضي ممرا انتجاعيا في رحلتها بين الصيف والشتاء، وكانت مع ولاتة وشنقيط الموريتانيتين أهم عواصم الإسلام ومحطات القوافل في تلك المنطقة، وذلك خلال سيرها محملة بالتمور والملح والقماش والكتب والذهب والعبيد والحرير وريش النعام وغيرها من بضائع الصحراء في تلك الفترة.

تمازجت في تمبكتو منذ تأسيسها وإلى اليوم أعراق وقوميات مختلفة، ففيها تقيم قبائل من الطوارق ومجموعات كبيرة من العرب مثل قبائل لبرابيش وكنته وغيرها، إضافة إلى مجموعات من قبائل الفولان والسونغاي وقبائل البربر مثل مسوفة وغيرها.

وقد تعايش الجميع في سلام وتكامل منذ قرون، وتطورت المعارف الإسلامية جامعة بين نخبة وعوام المجتمعات المذكورة طيلة قرون سامقة في تاريخ المدينة.

لوحة من سنة 1858 للمستكشف بارث تصوّر تمبكتو وفي مركزها مسجد دجينغاربير ومئذنته ترى من أطراف المدينة 

دول وإمبراطوريات متعاقبة
وقد تعاقب على حكم تمبكتو أسر وزعامات متعددة، وكان من أول حكامها زعماء من قبيلة مسوفة البربرية، واستمر حكمهم حوالي قرن من الزمن بدءا من منتصف ثلاثينيات القرن الرابع عشر الميلادي، وفي فترة حكمهم زار ابن بطوطة المدينة، ووصفها بأنها مدينة الملثمين.

كما حكمت المدينة أيضا قبيلة إمغشرن طيلة نصف قرن، قبل أن تدخل تحت حكم ملوك إمبراطورية مالي عبر غزوة مؤلمة قادها السلطان سونيا علي الذي دخل تمبكتو منتصف القرن التاسع الهجري في حملة فتك وسلب وقتل وتشريد.

غير أن القدر ابتسم للمدينة من جديد من حكام من سلالة وأقارب سونيا علي، ومن أهمهم السلطان آسكيا محمد الهادي (1493-1528) الذي بلغت فيه عهده هذه المدينة شأوا عظيما، حيث كان يهتم بالعلماء، وخرّجت المدينة في عهده عددا كبيرا من العلماء الموسوعيين الذين ذاع صيتهم في الآفاق مثل أحمد بابا التنبكتي (ت 1036هـ/1626م).

ومع سلطان الذهب مانسا موسى بلغت المدينة أعلى درجات الرقي والازدهار، حيث جلب إليها بعد رجوعه من رحلة حجه الشهيرة المدرسين والعلماء والمهندسين.

ومما تحكيه الروايات التاريخية أن الإمبراطور مانسا موسى -الذي حكم المنطقة في فترة من القرن الرابع عشر الميلادي- أخذ معه إلى رحلة الحج عام 1324 الميلادي نحو 180 طنا من الذهب، وكانت نتيجة ذلك أن انخفضت أسعار الذهب في مصر آنذاك.

وبعد عودته جلب معه من مصر مهندسا معماريا أندلسيا اسمه أبو إسحاق الساحلي وأعطاه 200 كليوغرام من الذهب مقابل تصميم وبناء المساجد، وكان مسجد دجينغاربير إحدى تحفه الخالدة، حيث ظل هذا الجامع إلى اليوم يناغي الشمس ويصافح الأيام الدوارة في رحلة عمر زادت على 7 قرون.

وقد انتشرت في عهد مانسا موسى ومن جاء بعده من الحكام المساجد ومراكز التدريس الإسلامية حتى بلغت أكثر من 188 مسجدا تضم أكثر من 25 ألف طالب علم خلال القرن الخامس عشر الهجري وما بعده.

وكان غزو السعديين لتمبكتو عام 1591 -أيام السلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي- بداية النهاية لعصر ازدهارها.

وقد نقل عدد من علماء تمبكتو قسرا إلى مراكش خلال تلك الأحداث، ومن أشهر هؤلاء علامة الغرب الإسلامي أحمد باب التنبكتي الذي مكث هناك أكثر من 10 سنين، وألف كتابه المشهور معراج الصعود في حكم مجلوب بلاد السود، الذي كان أول انتفاضة فقهية في وجه تجارة الرقيق التي انتشرت في المنطقة، واعتمدت اللون الأسود معيارا للاسترقاق دون أي اعتبار آخر.

ومع الزمن، تخلّص حكام المدينة العسكريون من تبعيتهم لدولة السعديين في المغرب، ثم سقطت المدينة تحت موجة الاضطراب والفوضى التي استمرت حتى دخول الاستعمار الفرنسي الذي دخل المدينة مع نهايات القرن الثامن عشر، وقد قاومه السكان مقاومة عنيفة، وخصوصا قبائل كل انتصر، بقيادة الزعيم محمد علي الأنصاري الملقب بأنقونا الذي استشهد سنة 1897 في مواجهة نيران الغزاة الفرنسيين.

ولم يكن دخول الفرنسيين إلى المدينة أول علاقة لها بالأوروبيين، فقد وصل إليها الرحالة والمستكشفون الهولنديون والبرتقال والفرنسيون، كما كانت لها علاقات تجارية مع مدن أوروبية متعددة خلال القرن الخامس عشر الميلادي.

بين استعمار الخارج واضطهاد الداخل

عانت تمبكتو خلال حكم الاستعمار الفرنسي من بطش الحكام الباريسيين الذين استهدفوا الممانعة القوية التي ظهر بها سكان المدينة، وحوّلوها إلى منفى لكثير من المقاومين الأفارقة الذين واجهوا الاستعمار الفرنسي لأفريقيا الغربية، ووقفوا في وجهه ثقافيا وعسكريا.

كما استهدف البحاثة الفرنسيون المكتبات ودور المخطوطات، فـ”سرقوا” كثيرا من الآثار الإسلامية في المدينة، ونقلوها إلى المكتبات وأدرجوها ضمن الأرشيف الفرنسي.

ولم تكن دولة مالي الوطنية -في بعض الفترات- أكثر رحمة بالمدينة وأبنائها من الفرنسيين حيث عانوا من الاضطهاد والإهانة، خصوصا أثناء ثورة 1963 التي كانت أول تحرك سياسي للطوارق مطالبين بحقوقهم السياسية في مالي، بيد أن حكومة الرئيس المالي الأسبق موديبو كيتا (أول رئيس لمالي بعد استقلالها 1960-1968) قمعتهم بشدة وزجت بأغلب نشطائهم في السجون، وإثر تلك الأحداث العاصفة اتهم الأزواديون نظام باماكو بارتكاب جرائم حرب في المدينة من بينها تسميم الآبار وتوزيع الموت المجاني على الإنسان والحيوان والبيئة.

مآذن وأضرحة في مواجهة العنف
ظلت الأنظمة المتعاقبة في مالي تنفي استهداف أهل الشمال عموما، ومن بينهم سكان تمبكتو، بالاضطهاد، وتؤكد أن ما يجري من تجاوزات يحدث بسبب التمرد والعنف الذي تقوم به الحركات المسلحة في الشمال.

وفي العام 2012 كتبت المدينة فصلا جديدا من تاريخها السياسي، عندما سيطرت عليها حركات مسلحة ذات صلة بتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي.

تزعم حركة أنصار الدين أنها أنقذت المدينة من ويلات الفوضى التي دخلتها المنطقة بعد انهيار الأوضاع بمنطقة الشمال وخروج الجيش المالي وانسحاب مؤسسات الدولة وتوقف معظم الخدمات العمومية؛ بيد أن السلطات المالية ترى أن المدينة دخلت زمنا أسود مع دخول تلك الجماعات الإسلامية إليها، فقد بادر هؤلاء إلى تحطيم عشرات الأضرحة المنسوبة إلى علماء وأولياء وصالحين، تنسمت المدينة بركاتهم وسيّرهم العطرة خلال قرون، وتقول إنه بصعوبة تم استنقاذ هذه الأضرحة والمكتبات التي تمثل تراثا عالميا، وذلك بعد طرد الجماعات عنها.

كنوز ومعالم
حفلت تمبكتو خلال عقود منصرمة بإقبال هائل من السياح الغربيين، خصوصا في ظل حالة تهويل إعلامية استغلتها مكاتب السياحة الغربية لتظهر المدينة بأنها مدينة العجائب.

ونظرا لكثرة الإقبال على المدينة التاريخية، أقيم أول مطار في المدينة منتصف التسعينيات، ليرفع من القدرات السياحية في المدينة، التي احتضنت أيضا فنادق عصرية متعددة.

وتشتهر تمبكتو بالعديد من المعالم الثقافية والعلمية، من أهمها مكتباتها العريقة التي تحتفظ بنحو 300 ألف مخطوطة، وتختزن صفحات هذه المخطوطات واحدا من أهم الكنوز الثقافية الإسلامية في أفريقيا.

وتضم المدينة أيضا مجموعة من المساجد الأثرية، مثل “مسجد جينكريبر” (أو جنغراي بير) الذي يقع في أقصى غربها، وقد بناه المعماري والشاعر الأندلسي أبو إسحاق الساحلي الذي استقدمه سلطان مالي مانسا موسى معه عند عودته من الحج، فكان ذلك بداية دخول الفن المعماري الأندلسي للمنطقة. وقد صنفت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو) هذا المسجد عام 1992 ضمن قائمة التراث العالمي.

ويعتبر “مسجد سنكَري” أحد أقدم معالم المدينة، وكان أيضا من أبرز مؤسسات التعليم في المدينة، وهو يقع شمالي شرقي الحي الذي يحمل الاسم نفسه، إضافة إلى “مسجد سيدي يحيى” الذي أسسه عام 1400م الشيخ المختار حماه الله، ويوجد في قلب المدينة القديمة.

واليوم تنام تمبكتو على مخدة التاريخ، وأغاريد القرون المفعمة بتاريخ عظيم من الإبداع الإنساني، باعتبارها واحدة من أهم عواصم الإسلام في غرب أفريقيا، وتدير النظر إلى الحكام الجدد لباماكو، متسائلة هل سيعيدون لها ذكرى أسكيا محمد الهادي، ومانسا موسى أم سيعيدون سيرة سونيا علي؟ فبين الشمال والجنوب المالي قصة من التدافع المستمر منذ عقود، واتهام دائم من الشمال للجنوب بظلم والتهميش.

شاهد أيضاً

توزيع جوائز الأسبوع الرابع والأخير من مسابقة “ثقافتكم”التي تنظمها الوكالة الموريتانية للأنباء

وزعت الوكالة الموريتانية للأنباء، زوال اليوم الأحد بمقرها في نواكشوط، جوائز الأسبوع الرابع والأخير من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *