19 مارس 2024 , 9:33

موريتانيا: الزراعة خارج التاريخ (1) / يحي بن بيبه

دأبت حكومات بلادنا المتعاقبة على الحديث عن الاكتفاء الذاتي من الغذاء، أو بعض أنواعه على الأقل، وعن وضع الاستراتجيات والخطط لتحقيق سيادتنا الغذائية.

فهل لهذه الجعجعة التي نسمع طحن؟ أم أنها عملية إلهاء لأطفال جياع حتى يناموا، أو لشوارع متوترة حتى لا تنفجر؟.

وما موقع الزراعة في بلادنا من موكب النهضة الزراعية المتسارعة في دول الجوار؟

ذلك ما نحاول أن نتصدى له في هذا المقال، وإن بدا الأمر محرجا.

أولا: المعطيات الحالية

1- في موريتانيا:

لا يتجاوز الإنتاج السنوي الموريتاني من الحبوب مجتمعة، طبقا للأرقام الحكومية، 428.888 طنا (حسب معطيات الموسم الزراعي 2018-2019). ولذلك تنفق البلاد سنويا نحو 166,8 مليار أوقية قديمة على وارداتها من المواد الغذائية، حسب أرقام مكتب الإحصاء الحكومي لسنة 2018.

وتعاني البلاد من بطالة تقدر بنحو ثلث القوة العاملة. كما تعاني من مستوى فقر مرتفع، يصل، في الوسط الريفي، إلى 4،59% حسب دراسة مسحية أجريت سنة 2008.

وتمتلك البلاد 513.000 هكتار من الأراضي عالية الخصوبة، منها 136.000 هكتار على ضفة النهر، لم يصل المزروع منها قط إلى الثلث.

2- في دول الجوار:

أطلق المغرب سنة 2008 برنامجا طموحا تحت عنوان: “المغرب الأخضر”.

وبموجب نتائج هذا البرنامج، تضاعفت صادرات المغرب الزراعية سنويا، بنسبة 117%، لتصل قيمتها إلى نحو 33 مليار درهم مغربي، أي حوالي 1.335.180.000.000 أوقية قديمة.

كما خلف هذا البرنامج 342.000 فرصة عمل.

وقد وصل الانتاج المغربي من القمح والشعير وحدهما إلى 14.811.400 طن، حسب أرقام الموسم الزراعي 2017-2018.

وبعد سنتين من اطلاق برنامج “المغرب الأخضر” أطلقت السنغال برنامجا طموحا لتحقيق سيادتها الغذائية.

وقد شهد هذا البرنامج تسارعا غير مسبوق، مع وصول ماكي صل إلى الرئاسة، لأن هذا الرئيس رأى في الزراعة وسيلته الأساسية للنهوض باقتصاد بلاده، حسب ما أعلنه في مقابلة إذاعية، أيام تنصيبه.

وهكذا أصبحت المنتجات الزراعية تمثل ثلثي صادرات السنغال، بعد أن حققت قفزة كبيرة في هذا المجال، حيث زادت المحاصيل في موسم 2018-2019 عن معدل السنوات الخمس السابقة، وذلك بنسبة 88% في الذرة الرفيعة (البيضاء)، و63% في الذرة الصفراء، و49% في الفستق، و92% في اللوبيا.

أما البطيخ والبطاطس، فقد زاد محصولهما على التوالي، بنسبة 387% و116%.

وقد تمكنت السنغال من تحقيق اكتفائها الذاتي من الأرز، بعد أن كانت ثامن أكبر مستورد له على مستوى العالم.

أما مالي، فهي مصممة على أن تتحول إلى قوة زراعية إقليمية، كما يقول رئيسها الذي يترأس، بنفسه المجلس الأعلى للزراعة.

وقد وصل إنتاج هذه الدولة من الحبوب 10.159.539 طنا، حسب معطيات موسم 2019-2019. هذا بالإضافة إلى 656.548 طنا من القطن الذي كانت تحتل فيه دائما المرتبة الأولى على مستوى دول المنطقة.

وتصل المساحة المزروعة في مالي إلى 5.892.161 هكتارا (موسم 2018-2019).

وقد انكبت الجزائر بدورها على تثمين مواردها الزراعية التي أهملتها ردحا من الزمن، فأطلقت برنامجا طموحا، بهدف تحويل الصحراء إلى مزارع غناء.

ووصل انتاج الجزائر من القمح وحده في موسم 2017-2018 إلى نحو ستة ملايين طن.

وترمي الخطط الحكومية، إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح الصلب، وإلى مضاعفة انتاج الحبوب ثلاث مرات.

وتصل قيمة الانتاج الزراعي في الجزائر إلى 25.000.000.000 دولار.

ثانيا: أسباب تخلفنا الزراعي المفزع

بعد هذا العرض المقارن، بين واقع الزراعة في بلادنا، وواقعها في دول الجوار، يحق للقارئ أن يتساءل عن أسباب تخلفنا الزراعي المخجل، الذي لا تنفع المكابرة في نفيه، ولا يجدي التبرير في ستره.

ولا تكلف الإجابة على هذا السؤال كبير عناء، ولا طويل بحث. فلهذا الواقع المؤلم عدة أسباب، نحاول أن نعدد أهمها.

لكن أبرزها على الإطلاق، غياب الإرادة السياسية، لدى حكوماتنا المتعاقبة.

1- غياب الإرادة السياسية

وتشكل المقارنة بين ميزانياتنا الزراعية، ومثيلاتها في الدول المجاورة الدليل الأساسي المسكت، على غياب إرادة تحقيق السيادة الغذائية لهذه الدولة، التي تحارب، بفاتورة وارداتها من الأغذية، البطالة والفقر في تايلاند وباكستان وأمريكا، بدل محاربتهما بين مواطنيها، عن طريق تشجيع ودعم تثمين الموارد الزراعية الداخلية.

إن المغرب مثلا، عبأ، خلال السنوات العشر الأولى (2008-2018) من برنامجه الطموح “المغرب الأخضر” 108 مليارات درهم مغربي (4.320.000.000.000 أوقية قديمة)، 40% منها من خزينة الدولة.

أما الجزائر، التي ظلت على مدى عقود تركز على الصناعة، على حساب الزراعة، فقد استوعبت الدرس القاسي من فشلها الاقتصادي، الذي دفع بها إلى حرب أهلية، فانقلبت إلى الزراعة، لتقرر رفع استثماراتها الزراعية السنوية إلى 2.500.000.000 دولار (حوالي 94.675.000.000 أوقية قديمة)، وذلك خلال برنامجها من 2015 إلى 2019.

وللقارئ أن يقول إن الجزائر والمغرب دولتان غنيتان، ومقارنة موريتانيا بهما تفتقر إلى الإنصاف.

فلنقبل هذا “الحق الذي إريد به باطل” ستر عورات سياساتنا الزراعية الخرقاء”، ولنلتفت إلى جارتينا الأفقر منا، حيث متوسط دخل الفرد في السنغال 1958 دولارا، وفي مالي 1103، مقابل 2218 في موريتانيا، حسب أرقام الأمم المتحدة لسنة 2018.

ويكفينا المقارنة بين ميزانيات الزراعة للدول الثلاث، خلال العام الحالي 2020.

تبلغ الميزانية الموريتانية لقطاعي البيطرة والزراعة نحو 15,5 مليار أوقية قديمة، وهو ما لا يتجاوز نحو 2،57% من الميزانية العامة للدولة (مقابل أكثر من 13% للجيش)، بينما تصل ميزانية الزراعة في مالي إلى 15% من الميزانية العامة للدولة، البالغة 2.604.568.000.000 افرنك غرب إفريقي. وهذا يعني ميزانية سنوية تبلغ 390.685.200.000 افرنك، وهو ما يساوي نحو 264.532.948.920 أوقية قديمة.

أما السنغال فتصل ميزانية الزراعة فيها هذا العام إلى نحو 152.000.000.000 افرنك غرب إفريقي، أي نحو 102.919.200.000 أوقية قديمة.

وهذا يعني أن ميزانية الزراعة في موريتانيا، خلال السنة الحالية، لا تتجاوز نسبة 3،96% من مثيلتها المالية، و15،08% من ميزانية الزراعة في السنغال..!.

وقد ترتب على الاختلاف في الميزانيات الزراعية، هوة أكبر في مستوى الدعم الحكومي للزراعة، وهو ما نقصد به تحمل الدولة لجزء من تكلفة الانتاج الزراعي، حتى يصبح مغريا، أو على الأقل مجديا اقتصاديا للمزارع.

فالمغرب رفع، في خطة المغرب الأخضر، مستوى الدعم الحكومي بنسبة 112%، بعد أن أثبتت له الدراسات الميدانية، أن كل درهم تدفعه الدولة في الدعم الزراعي، يجذب معه 85،2 درهما من القطاع الخاص.

وهكذا فإن الحكومة المغربية تتولى مثلا، عن المزارع الذي تزيد مساحة مزرعته على خمسة هكتارات، 80% من تكاليف شبكات الري بالتنقيط، و50% من تكاليف حفر وتجهيز الآبار الارتوازية.

أما إذا كانت مساحة المزرعة لا تتجاوز خمسة هكتارات، فإن الدولة تتولى دفع التكلفة بالكامل (أي بنسبة 100%).

وفي السنغال يبلغ مستوى ما تتحمله الدولة عن المزارع، 60% من تكاليف المكننة الزراعية، و50% من البذور والأسمدة (حسب ميزانية 2018).

وفي مالي بلغت تكلفة الدعم الحكومي على الأسمدة وحدها، في موسم 2018-2019 نحو 44.000.000.000 افرنك غرب إفريقي، أي نحو 29.792.400.000 أوقية قديمة.

هذا بينما يصل الدعم الحكومي في الجزائر إلى 60% على الحاصدات، وما بين 30 و45% على آلات وتجهيزات الزراعة.

أما في موريتانيا فإن الحكومة تفرض رسوما جمركية على الأسمدة الزراعية، تصل إلى نحو 25% من قيمتها..!.

وما توفره الدولة من الدعم يتوجه بالكامل إلى شبكات الفساد. ذلك أن الصفقات العمومية تتعرض، كما هو معروف، لعمليات تضخيم خلال مرورها عبر قنوات التحالف العريق، بين أرباب السلطة والمال.

وهكذا تأتي الحكومة، بعد عملية التضخيم، لتقول إنها تدعم سعر الحاصدات بنسبة 25%، وسعر الأسمدة بنسبة 40%، بينما لا تغطي هاتان النسبتان إلا جزءا يسيرا من تكلفة الفساد، في مجالي الحاصدات والأسمدة.

أما البذور، فلا تقدم لها الحكومة أي دعم أصلا.

يضاف إلى هذا، تمتع المزارعين في الدول المجاورة بخطوط تمويل مدعومة ومريحة، قصيرة ومتوسطة المدى، بفائدة سنوية لا تتجاوز غالبا نحو 5% (قروض الحملات الزراعية في الجزائر من دون أية فائدة على الإطلاق).

بينما يكاد يكون التمويل الزراعي في موريتانيا معدوما بالكامل. فلا تمويل حكوميا متوسط المدى. والموجود من التمويل القصير المدى، لا يتجاوز 6 أشهر، ويقدم بفائدة تصل إلى نحو 12%، وهي فائدة أعلى حتى من بعض البنوك التجارية العادية.

ومع هذا كله، فإن هذا التمويل شبه معدوم، إذ لا يكاد يغطي نحو 4% من المساحة المزروعة..!.

وواقع التأمين الزراعي في بلادنا أسوأ من واقع التمويل.

فبينما يتمتع المزارع السنغالي مثلا، بثلاثة مستويات من التأمين الزراعي، تسمح له بالنهوض بعد كل كبوة، ويتمتع المزارع المغربي بتأمين ضد ستة مخاطر أساسية (الصقيع- الجفاف- البرد –الرياح القوية- الرياح الرملية –ركود المياه في الحقل)، بينما يتمتع هؤلاء وأقرانهم في الجزائر ومالي بهذه المظلات التأمينية، التي تحميهم من المخاطر الحتمية للزراعة، فإن المزارع الموريتاني لم يعرف التأمين الزراعي إلا في الذكر. ولم تقدم له الدولة قط أي تعويض، مهما كانت فداحة وشفافية الخسائر التي تلحق به. حتى في سنة 1999، التي فاض النهر فيها على المزارع، ولم يستطيع رئيس الدولة تفقدها إلا في طائرة حامت فوقها بسبب تحولها إلى بحيرة، حتى في هذه السنة، لم تقدم الدولة أوقية واحدة، مساهمة منها في تحمل جزء من الخسائر الفادحة التي خلفتها الكارثة.

وهكذا يتضح لنا أن المزارع الموريتاني يتيم الأبوين، أو هو فلاح على سطح المريخ، حيث لا دولة ترعاه.

ولنا أن نتساءل بجدارة: لماذا لم تستفد حكوماتنا المتعاقبة من التجارب الجيدة لجيراننا؟ أم أن هذه الحكومات عجزت عن التقليد، عجزها عن الخلق والإبداع.

يتبع …

شاهد أيضاً

حول تشاور الداخلية والنخبة السياسية والنقابية / اج ولد الدي

قرأت التقرير الصادر في ختام الأيام التشاورية التي نظمتها وزارة الداخلية واللامركزية مع ممثلي التشكيلات …