25 أبريل 2024 , 10:48

هل تعيد “المآسي الإنسانية” المسار الحضاريّ من الغرب إلى الشّرق؟

صراع الإنسان مع “تفاهة الشّرّ” لم يبدأ مع فيروس كورونا، بل مع بدء الخليقة، وفق الصحافية اللبنانية المتخصصة في الدراسات الاستشرافية أورنيلا سكر، التي تسجّل أنّ الإنسان كان دائما في حاجة إلى “حدث كبير حتى يعالجَنا من أوهامِنا، ويُرجعَنا عن تيهنا”.

وتنتقد أورنيلا سكر في مقالتها هذه “الاستعلاء الحضاري والتّكابر” الغربيّين، معبّرة عن دهشتها من “ثقافة الغرب التي كرست على مدار قرون ثقافة مفادُها أن “طاقة العلم في ذاته، ولا يمكن أن يحقّق قفزاتٍ نوعيةً في اكتشاف الحقائق، إلا إذا تحرّر من كل رواسب النظرات الدينية”، وهي القطيعة التي ترى أنّها كُرِّسَت في كتاب ساموئيل هنتنغتون حول صراع الحضارات، الذي تفصّل في مغالطتين يحملهما هما: “إرث الغرب يهودي- مسيحي”، والحديث عن محاربة الإسلام لليهودية والمسيحية.

وتعرج الصحافية في مقالتها على الصراع العربي – الإسرائيلي، لتذكر أنّ هناك إرادة تريده إظهاره على أنّه ديني المنشأ، “فيما هو في الحقيقة صراع وجودي”، قبل أن تعود، وأمريكا تثورُ اليومَ ضدَّ العنصرية، لتعتبر أن نظرية هنتنغتون وُضِعَت بناءً على المسار التاريخي للحضارة الأمريكية، التي نقل إليها الأوروبيون جرثومة العنصرية، فقامت على إفناء “الهنود الحمر”، واستعباد “السود” لاختلاف لون بشرتهم عن الرجل الأبيض، ورفْض كل وجود ليس على شاكلتها.

وبعد حديث الصحافية اللبنانية عن تبادل الشّرق والغرب الأدوار؛ لأنه “فيما كنا متحررين في القرون الوسطى في الإنتاج الحضاري المبني على فصل العلم عن الدين، وازدهار المعرفة، أخذ الغرب هذه الميزة منا، وفقدناها نحن”، تستنجد أورنيلا سكر بـ”ثقافة التسبيح بالله” أمام “مآسي حضارتنا”، وتدعو إلى عدم التفاجؤ “إن عاد مسار الحضارات من الغرب إلى الشرق من جديد”، بعد المسؤولية الجماعية التي صار يفكّر بها العالَم، عقب عنف كورونا، والسياسة التي يسودها الكذب والنفاق والانحلال والانحطاط، والتي نتجت عن العولمة والرأسمالية المتوحشة، وكان من تعبيراتها “سياسة مناعة القطيع”.

نصّ مقال أورنيلا سكر:

مراجعات بين الغرب المُستَعلي والشرق المُستَحني.. أيُّ وباء يفصل بينهما؟

إن فيروس كورونا ليس بالحدث الجديد، فقد شهد العالم موجات أوبئة كانت أكثر خطرا وفتكا بروح الإنسان. ربما يكون الطاعون واحدا من الأسباب الرئيسية في انهيار حكم المماليك، إذ لم تقتصر عواقبه على حصده المستمر للسكان، في موجات لا تتوقف في مصر والشام، من العام 1347 وحتى الغزو العثماني في عام 1517. لكن العواقب الأوخَم، كما يشير الدكتور محمد عفيفي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في جامعة القاهرة، تمثلت في المجاعات التي تعقب كل وباء، والخراب، والانهيار الاقتصادي.

ويتفق المؤرخ الأمريكي شلدون واتس، في كتابه “التاريخ والأوبئة”، مع هذا الرأي، موضحا أن وفاة الآلاف من العمال والفلاحين بالوباء في مصر المملوكية، أدى إلى هجر قرى بكاملها، وانهيار الزراعة، ومعها صناعات أخرى مثل الحرير والملابس.

نعود إلى ابن إياس في أحد مشاهد الفناء بالطاعون: “إذا دخل الدار يفنيها حتى يعلقوا مفاتيح الدار في رجل النعش”. وهو ما يتفق معه شيلدون واتس في “أن القاهرة التي كانت تصنف كأكبر أو ثاني أكبر مدينة في العالم، بتعداد سكاني يبلغ نصف مليون نسمة، قد فقدت مائتي ألف من سكانها في الفترة من 1347-1349″،

ولم يكن وباء الطاعون مقتصرا على الشرق الإسلامي، فالحقيقة التاريخية أنه جاء وافدا من أوروبا الغربية، يروي واتس كيف انتشر الوباء من موانئ البحر الأسود في العام 1347، عندما اعتلت الفئران والبراغيث سفنا متجهة إلى جنوا الإيطالية، الدولة-المدينة التي قادت مع شقيقتها البندقية -“فينيسيا” حركة تجارة مزدهرة في حوض المتوسط، وارتبطت مع الدولة المملوكية في تحالفات تجارية. وسرعان ما وصلت السفن الجنوية إلى سواحل مصر ومدنها، ليعم “الموت الأسود” جنوبي وشمالي المتوسط وأوروبا الغربية.

لكن الدولة-المدينة في إيطاليا، بداية، تمكنت من التصدي للوباء تدريجيا، عن طريق الحجر الصحي، أو “Quarantine” (كلمة مشتقة من الرقم 40 بالفرنسية)، لإبقاء السفن وبحّارتها في البحر لمدة أربعين يوما، قبل دخولهم الموانئ (قبل معرفة كيفية انتشار المرض علميا)، لتحدّ من موجاته التالية، وتوقف النزيف البشري لسكانها، بينما استمر الشرق الإسلامي معتمدا تفسيرات دينية للوباء، ولا يمكن أن ننسى أيضا الحديث عن الأوبئة التي عرفها العالم من دون الحديث عن الأنفلونزا الإسبانية، التي انتشرت بين عامي 1918 و1920، متربعة كواحدة من أكثر الأمراض فتكا بالبشر، وصولا إلى مشتقات سارس وغيرها.

إن الفكر المؤدلج هو الذي يجعلنا ننظر إلى الأشياء بسلبية، وردة فعل عكسية، والحقيقة أن صراع الإنسان في مواجهة تفاهة الشر، لم يبدأ مع الفيروس التاجي (كوفيد-19)، بل إن قصة هذا الصراع بدأت مع بدءِ الخليقة.

فقد كان محقا المفكّر واللاّهوتي بليز باسكال عندما قال: “إن الإنسان هو عبارة عن قصبة مفكرة”. مشيرا إلى أن جائحة كورونا أرجعت الإنسان إلى حجمه الطّبيعي، من دون نقصانٍ أو زيادة؟ من دون تقليصٍ أو انتفاخ؟ نحن دائما بحاجة إلى حدث كبير حتى يعالجَنا من أوهامنا، حتى يُرجعَنا من تيهنا. فالإنسانُ مفطورٌ على تجاوز الذات، والإقامة في ضيافة الغُلوّ. لم يخطئ من قال إن الكائن البشري نصفُ إله. غير أن مأساتَه الكبرى ناتجةٌ من نصفه الثاني؛ نصفِه المحدودِ، الواهن، الضّعيف؛ نصفِه المعدِّ للهوانِ والاعتلال والموت والتلاشي.

إن الخطيئة العظيمة التي ارتكبها الإنسان هو الظّن بأن الإيمان بالله هو نتيجة مباشرة لهزيمة العلم. إن هذا الاستعلاء الحضاري والتكابر، كشفا عورة الغرب كما جاء في مقالة للبروفسور جورج حبيقة، نشرت في الجامعة الأمريكية حول “مآسي حضارة يعالجها وباء”، إن وباء كورونا قد فضح بشكل مدوٍ منسوبَ استهتار هذه البلدان بصحّة الإنسان وكرامته، ووضَع في دائرة الضوء أولوياتها التي تظهر وكأنها محصورةٌ في مجال التسلّح الأكثر تطورا وفتكا، وفي غزو الفضاء الخارجي سعيا إلى المزيد من النفوذ والسيطرة والهيمنة، وفي حقل التكنولوجيا الأكثر تعقيدا، والمستندة إلى الذكاء الاصطناعي، والمستثمرة في قطاعات الصناعة والزراعة والأسواق الاستهلاكيّة.

أين صحّةُ الإنسان وسط هذه البيئة العلمية التي لم تلوِ على كرامة البشر يوم استبدلتهم بالروبوت؟ أين الأبحاثُ الطبّية التي يجب أن تكون الأولوية في بلدان تحترم الإنسانَ وحياتَه وحقوقه الأساسية؟ ماذا ينفع الإنسانَ أن يقطع باليقين إذا كان هناك من ماء على سطح المرّيخ أم لا، بكلفة باهظة تتخطّى الخيال، بينما هو بحاجة إلى كمّامة، أو إلى آلة للتنفس الاصطناعي، أو إلى مكان لائق في مستشفى؟

أدهشتني ثقافة الغرب التي كرست على مدار قرون من الزمن، ثقافة مفادُها أن “طاقة العلم في ذاته، ولا يمكن أن يحقّق قفزاتٍ نوعيةً في اكتشاف الحقائق، إلا إذا تحرّر من كل رواسب النظرات الدينية”. إن هذه القطيعة التي تم تكريسها في كتاب ساموئيل هنتنغتون حول صراع الحضارات ما كانت إلا عملية اجترار واختزال لواقع العلاقة بين الشرق والغرب. لأن في ذلك مغالطتين:

المغالطة الأولى هي أنّ “إرث الغرب يهودي- مسيحي”، إذ إن هذا الغرب المسيحي الكاثوليكي هو الذي حارب اليهودية لقرون طويلة ونبذ اليهود، لا بل طردهم مع المسلمين خارج إسبانيا، رغم أن اليهود هم إسبان وكذلك المسلمون، بعد أن استقروا فيها لأجيال مديدة، وظلت أوروبا تضطهد اليهود حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، بناء على نظريات عنصرية لطالما زخر بها الإرث الأوروبي.

والمغالطة الثانية هي في اعتبار أن الإسلام يحارب اليهودية والمسيحية، ومن المؤكد أنه يعرف أن هذه ليست الحقيقة، وأن الإسلام اعترف منذ البداية “بأهل الكتاب”، وبأن أنبياءهم أنبياؤه.

والمسلم لا يستطيع أن يحارب اليهودية والمسيحية كحضارتين مختلفتين، لأن إسلامه مكمّل لهاتين الديانتين، أي أن الديانات التوحيدية الثلاث هي ضمن حضارة توحيدية واحدة، نابعة من مركز جغرافي واحد، ومن يريد تأكيد أنّ هذه الديانات في حالة حرب ليس الإسلام، بل مفكرون مثل هنتنغتون، وبرنارد لويس، وبعض المستشرقين المدسوسين، لأن هذين المفكرين يريدان إظهار الصراع العربي – الإسرائيلي على أنه ديني المنشأ، وهو في الحقيقة صراع وجودي، لأن كل الأديان قد تشابهت، فلماذا هذا الفكر الأصولي؟ فالأدلة التاريخية تظهر عكس ذلك تماما، لأن الحضارات، وبما فيها الثقافات والأديان، لا حدود جغرافية لها، وانتقلت ولا تزال تنتقل، منذ بداية التاريخ، بشكل سلمي، وعبر التبادل التجاري، وتواصل المجتمعات، حيثُ لم تقم منطقة الهلال الخصيب بإعلان الحرب على أوروبا الوثنية باسم المسيحية التي انطلقت من فلسطين، بل إن المسيحية تسربت وانتشرت في أوروبا عبر التبشير، والدين ليس المظهر الوحيد للحضارة، فالعديد من الخصائص الحضارية كالعلوم والموسيقى والأدب انتقلت إلى الغرب، وتبناها هذا الأخير بشكل طبيعي، وأقبل عليها لأنها كانت متفوقة في المعرفة..

لذلك يبدو، إذا، أن هنتنغتون وضع نظريته بناءً على المسار التاريخي للحضارة الأمريكية، التي نقل إليها الأوروبيون جرثومة العنصرية، فقامت على إفناء “الهنود الحمر”، واستعباد “السود” لاختلاف لون بشرتهم عن الرجل الأبيض الذي يرمز لونه إلى تفوقه الحضاري، ورفْض كل وجود ليس على شاكلتها، وبالتالي لا يستطيع هذا المفكر، أو لا يريد، تصور نموذج التمدد السلمي للحضارات، كما عرفته العديد من الحقبات التاريخية مثل حضارة الأندلس، حيث ساد جو التسامح وتبادل المعرفة (مِن فلسفة، وفكر، ورياضيات، وصناعة، وتجارة)، وأيضا حين بدأت حركة الاعتزال بالانتقال من طور الاجتهاد في الكلام إلى طور التفلسف…

ومن أجل تثبيت هذا الكلام، لجأت الكنيسة الكاثوليكية، كما تبلورت في القرون الوسطى، إلى سلاح التكفير والهرطقة، للقضاء على كل من يخالف رأيها؛ فعمّت محاكم التفتيش الدينية مدن أوروبا، واعتبرت الكنيسة نفسها الوحيدة المخولة بالبحث في الشؤون الثقافية والعلمية، فأرغمَت غاليليو على القول إن الشمس تدور حول الأرض، كما حرّمت الحديث عن نظرية التطور واعتبرتها منافية للدين المسيحي الذي يؤمن بخلق العالم في سبعة أيام.

لقد بقي رفض نظرية داروين سائدا في الكلية الإنجيلية السورية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، من قبل المبشرين البروتستانت، وخاصة من قبل رئيس الكلية آنذاك دانيال بلس، الذي منع منعا باتا أي تداول لكتاب داروين في النشوء والارتقاء تحت طائلة الطرد، لكن استطاع بعض الطلبة السوريون الاطلاع على مضمونه خفية، فنتج من ذلك ثورة في المفاهيم قلبت المعايير التقليدية، وبرزت أفكار جديدة عن تطور المجتمع وإمكان تغييره.

ولم تتحرر المعارف في الغرب إلا بإلغاء دور الكنيسة المهيمن على الفكر، وإبعاد الدين عن كل ما يختص بالمعرفة الإنسانية، فمن الغريب أننا تبادلنا والغرب الأدوار، ففيما كنا متحررين في القرون الوسطى في الإنتاج الحضاري المبني على فصل العلم عن الدين، وازدهار المعرفة، أخذ الغرب هذه الميزة منا وفقدناها نحن.

إن سقوط الغرب والشرق سببه أن الأول استفحل في سلطة العلم، والثاني في سلطة الدين. والمطلوب العدل والتوازن، وتوظيف سلطة العلم والدين في موضعهما الصحيح، خدمة للإنسان والإنسانية والطبيعة، التي هي جزء من وجود الإنسان “تَئِنُّ مِن آلامِ المـَخاض” (روم 8، 22).

ويؤكد الألماني فالتر بنيامين، أن في كل حضارة جديدة بعدا بربريا وافدا، فكتابه (فتح أمريكا) يقول فيه أنّه: “كلما صعدت الحضارة، صعدت معها وجوه بربرية غير مسبوقة، بسبب وسائل وأدوات (حضارية) لم تكن متوافرة في زمن سبق”. ولهذا قتلت الكيمياء أو منجزات المخابر العلمية، العدد الأكبر من الهنود، الذين كانت نعم الفاتح الأوروبي عليهم مسمّمة، تحمل لهم الدفء والموت معا. وكان الصهيوني بن غوريون يقول: “نستطيع استعمال السكان الأصليين في فلسطين في جمع العقارب والأفاعي، فإن لم تهلكهم المخلوقات السامة، عالجتهم مجزرة دير ياسين، في انتظار اقتلاعهم بأسلحة أخرى”. أعطى الصهيوني قوله في الربع الأول من القرن العشرين، بعد مرور زمن طويل على فلسفة ديكارت، وتعاليم الألماني (كانت) عن السلام الإنساني الدائم، وتعاليم (سبينوزا)، الفاصلة بين الحرية والعبودية. لماذا تنمو الفلسفة المتحضرة المحدثة عن الروح السعيدة والسلام في مكان، وتتحول إلى نقائضها في مكان آخر؟

يقوم الجواب في أطروحتين لهما: تقول الأولى إن الشرّ الإنساني أبدي، حتى لو وُجِد خيرٌ يواجهه، وهو ما أوجزه نجيب محفوظ في روايته (أولاد حارتنا). وتقول الأطروحة الثانية إن جوهر الإنسان الذي قالت به فلسفة التنوير الأوروبي، لا وجود له، فما يوجد إنسان بصيغة الجمع، وشروط إنسانية بصيغة الجمع أيضا، وما يوجد قبل هذين البعدين مبدأ القوة الفاصل بين مجتمعات إنسانية متعددة.

تلتحق هاتان الأطروحتان عن مطلقات الشر والجوهر، لموقع التاريخ الإنساني، حال العودة إلى جملة نجيبة للألمانية حنّا أرندت: “لا ينفصل الفعل العنيف عن الوسائل التي يستخدمها، والغايات التي يقصدها، فالبربرية تزيدها وسائل التقدم الإنساني، فلم يكن أحد يستطيع إبادة مئات الألوف بالجراثيم المخبرية قبل اكتشاف أمريكا، ولم تكن هناك إمكانية لقتل الملايين قبل القنبلة الذرية التي اختبرت قدراتها في هيروشيما ونغازاكي، في نهاية الحرب العالمية الثانية، عام 1945”.

لذلك، أجد أن مآسي حضارتنا ستعالجها ثقافة التسبيح بالله إنه على كل شيء قدير، “فلا تسقط شعرة إلا بإذن أبيكم، فشعرُ رؤوسِكُم معدود” (متى 10، 30)، في إشارة إلى معرفةِ الله للإنسان، التي تتخطّى معرفةَ الإنسانِ لذاتِه. من هنا نفهم أن هذه المساحة بين الذات والتحول ليست إلا نضجا وجوديا، كتعبير عن نضج فكر الإنسان الذي يحتج في ذاته، حيث يقول العالم الإسباني فيلا سبازا إنّ “جميع اكتشافات الغرب العجيبة ليست جديرة بكفكفة دمعة واحدة، ولا خلق ابتسامة واحدة للإنسان الغربي الذي يعيش حالة من الكآبة والقلق والحيرة، ما يدفع به إلى وضع حد نهائي – مأساوي لحياته عن طريق الانتحار. وبالتالي، يراد من هذا العرض توجيه رسالة إلى العالم، مفادها أن التقدم ليس وليد الحداثة، ولو كانت معالمه قد اتضحت في فترة الحداثة، بل القول إن للتقدم امتداده العميق في التاريخ، ويعود ذلك إلى الإرث اليهودي-المسيحي للعالم، الذي يقوم تصوره على احتقار العالم”.

وهذا الاحتقار هو الدافع إلى البحث عن عالم أفضل سيأتي لاحقا، وهذا العالم هو الذي جاءت الحداثة لبلورة معالمه، ووضع أسسِه، ومحاولة بنائه. حيث يقول ميشال مافيزولي، عالم الاجتماع الفرنسي في كتابه: “زمن القبائل”، إن الظواهر الاجتماعية لا يمكن تفسيرها من الخارج، من خلال اعتبارها كأشياء كما ذهب إلى ذلك إميل دوركهايم، وإنما بفهم هذه الظواهر من الداخل؛ من خلال إعطاء أهمية للحواس، التي تبين أنه لا يمكن استبعادها من عمل السوسيولوجي، ما سماه مافيزولي بـ(سوسيولوجيا الحواس)، ويؤكد أن العقل الإنساني عندما يتجاوز سقفا معينا، يصبح عقلا مجادلا، وهذا لا يعني التقليل من قيمة العقل، لكن هذا التجاوز أدى إلى تجليات اجتماعية لا بد من التوقف عندها، وهي ضعف الروابط الإنسانية، وانحسار الأشكال القديمة للتضامن، ما أدى إلى بروز ظواهر سلبية كظاهرة اللامبالاة، وهي ليست ظاهرة فردية، بل ظاهرة جماعية، إذ إنها لا ترتبط بـ(الأنا) وإنما بـ(النحن)، وجاءت ردَّ فعل تجاه عنف كورونا، وما أحدثه من تباعد اجتماعي، جعل العالم يفكر بالمسؤولية الجماعية، هذا العالم الذي نتج عن العولمة والرأسمالية المتوحشة، والذي بات يتسم بشروط غير إنسانية، وبسياسة ذات برامج غير فعّالة، يسودها الكذب والنفاق والانحلال والانحطاط، الذي عبرت عنه مواقف الرؤساء الغربيين في زمن كورونا من خلال سياسة مناعة القطيع.

فلا تتفاجؤوا إن عاد مسار الحضارات من الغرب إلى الشرق من جديد، بفعل العمق التاريخي في الوعي الإنساني المتجذِّر بتاريخ الشرق؛ لأن الازدهار الإنساني ليس بالفردانية، والحريات، وسيادة الإنسان، والرفاه المادي الذي أنتج التفاهة، والذي عبر عن نهاية التاريخ الإنساني، الذي يعد ممثلا متأخرا للفلسفة الغربية الحديثة، تجاهل فيها الازدهار الروحي والمعنوي للإنسان، الذي هو تفكير مؤقت وعابر، قد كانت له مثل الليبرالية والديمقراطية والرأسمالية الكثير من التناقضات الداخلية. لذا خشي الله على عباده من العُلماء (سورة فاطر 28).

شاهد أيضاً

بين الطوباوية والبرغماتية / الولي ولد سيدي هيبة

اثبتت دراسات قيمة أن أكثر ساكنة المعمورة جنوحا إلى السلم هم ساكنة ضفاف الأنهار، التي …